الأكاديمية السلطانية للإدارة.. القيادة بالقدوة
إن من أبرز ما اتسم به الجهاز الإداري للدولة في هيكلته الجديدة إيجاد المظلات الموحدة لقطاعات الحكومة، ولعل إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة بشكله الحالي تمثل الأساس الضروري الذي يمكن أن يتم عليه بناء رؤية عمان 2040. ذلك المنطق ليس ببعيد عن الدوافع الملموسة لإنشاء الأكاديمية السلطانية للإدارة، والتي جاءت نتاج توحيد جهود واختصاصات وموارد جهات مختلفة تسعى لأهداف متقاربة كللتها الرعاية الفخرية لجلالة السلطان المعظم - حفظه الله.
وبالرغم من أن الأكاديمية قد ورثت برامج كانت قائمة قبل إنشائها، إلا أن أول ما يمكن ملامسته في ذلك الجانب هو قدرتها العالية على التكيف مع ذلك التغير رغم محدودية الوقت وارتفاع سقف التوقعات؛ وسرعة اتخاذ القرار الحاسم دون إغفال عناصر الجودة والاهتمام برؤى مختلف الأطراف ذات العلاقة.
لقد جاء الإعلان عن إستراتيجية الأكاديمية السلطانية للإدارة بُعَيد ختام الوحدة التعليمية الأولى للبرنامج الوطني لتطوير القيادات التنفيذية الذي تنفذه الأكاديمية بالتعاون مع جامعة أوكسفورد، وهو ما يشكل رسالة واضحة تعالج هواجس الرأي العام التي قد تصاحب بعض البدايات المليئة بالاستراتيجيات والخطط والآمال، مفاد تلك الرسالة أن الأكاديمية قد بدأت العمل على أرض الواقع وأنها تسابق نفسها من أجل تحقيق المهام الموكلة إليها في ظل التطلعات الوطنية والتغيرات العالمية.
ولعله يمكن للناظر إلى عمل الأكاديمية من الداخل تلمّس جدية مختلف منسوبي الأكاديمية في ذلك، حيث شهدت الوحدة التعليمية الأولى للبرنامج الوطني لتطوير القيادات التنفيذية في أوكسفورد سلسلة من المحاضرات وحلقات العمل والتجارب العملية والزيارات الميدانية تمحورت حول موضوعات تلامس الأولويات الوطنية مثل القيادة في ظل المتغيرات العالمية، وتوظيف تقنيات الثورة الصناعية الرابعة لاستدامة التقدم والازدهار، وضمان الصلابة المؤسسية في مواجهة الغموض، وتعزيز عنصر الثقافة داخل المؤسسات كممكّن للإنتاجية والتغيير، ودور علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) في تعزيز فهم السلوك المؤسسي، وتأثير تمكين الفرق في الأداء المؤسسي، وأهمية تعزيز ثقافة الابتكار في القيادة، ومستقبل العمل وتأثيره في أساليب القيادة، ودور علم السلوك في إنفاذ السياسات والمبادرات، وأحدث نظريات القيادة للتغيير من جامعة أوكسفورد.
إن ما قدمته الأكاديمية السلطانية للإدارة لأربعين شخصا من منسوبي البرنامج الوطني لتطوير القيادات التنفيذية لم يكن محض تلك المحاضرات وحلقات العمل والتجارب العملية والزيارات الميدانية، بل كانت الصورة الأكبر هي البيئة التشاركية التي أتاحت لأولئك الأربعين من قيادات القطاعين الحكومي والخاص بناء نقاشات عميقة لتشخيص الواقع الوطني وفهم وتوزيع الأدوار بين المؤسسات وأهم من ذلك ضرورة وجود ثقافة العمل التشاركي بين مختلف المؤسسات المعنية وكذلك الشراكة بين القطاعين العام والخاص. كما أن إدماج القائمين على البرنامج لمحاور وأولويات رؤية عمان 2040 بشكل مكثف في مختلف أنشطته كان جليا سواء في تكرار ذكر مقدمي تلك الأنشطة للرؤية أو استشهادهم بها أو حتى تنفيذ أنشطة عملية لتجريب أحدث نظريات القيادة التي خرج بها البروفيسور مايكل سميتس من جامعة أوكسفورد في تصنيف المشروعات المرتبطة بمحاور رؤية عمان 2040 الأربعة على أساس مصفوفة ثلاثية الأبعاد تكون محاورها السرعة المطلوبة لتنفيذ تلك المشروعات، والنطاق الذي يمكن أن تشمله، ومدى أهمية تلك المشروعات بالنسبة للمؤسسة.
أما فيما يتعلق بالزيارات الميدانية فقد حرص البرنامج على أن تشمل مؤسسات رائدة في مجالات ثقافة العمل والابتكار، وبيئات العمل التشاركي بين القطاعين العام والخاص، ومجمعات العلوم والتقنيات المتقدمة، ومبادرات وبرامج المؤسسات الصاعدة وريادة الأعمال، والممارسات المالية المواكبة للتطورات العالمية، ومؤسسات علم السلوك. كما شمل الجانب الميداني إجراء تجارب واقعية على تطبيقات الطائرات المسيَّرة في خدمة البشرية عبر التعامل مع سيناريوهات عمليات إنقاذ إنسانية إثر كوارث طبيعية وعبر مراحل التخطيط وإدارة الموارد والتنفيذ الفعلي وضمن بيئة اتسمت بالتنافسية بين الفرق.
إن من أبرز ما يمكن التنبه إليه في خضم كل ما شمله البرنامج من رؤى وأفكار ونظريات وممارسات هو أهمية علم البيانات في القيادة؛ حيث بينت مختلف الأنشطة المرتبطة بهذا العلم أن البيانات موجودة في كل شيء من حولنا، وأن التفكير المبني على أساس البيانات من شأنه تعزيز أداء القيادة وتحقيق أفضل النتائج. ولعل أفضل ما يمكن الاستشهاد به في هذا السياق - رغم حداثة موضوع علم البيانات بشكله الحالي نسبيا - المقولة الشهيرة لبيتر دراكر أحد مؤسسي علم الإدارة الحديث التي تنص على أنه «لا يمكن إدارة ما لا يمكن قياسه»، ولذا فإن أهمية توظيف علم البيانات تكمن في تزويد صانع القرار بالمعرفة اللازمة التي تمكنه من اتخاذ القرار الواعي.
لم تكن نظرة الأكاديمية السلطانية للإدارة إلى جامعة أوكسفورد تحيطها القداسة تجاه إحدى أعرق جامعات العالم، حيث أخضع القائمون على تنفيذ البرنامج كافة الأنشطة والمحاضرات وحلقات العمل والزيارات لتقييم شامل ومستمر لقياس مدى استفادة المشاركين منها، ومدى ملاءمتها مع السياق الوطني، وما إذا كان يمكن النظر لتلك الأنشطة كأنوية للتوسع في موضوعات ذات أولوية بالنسبة للمشاركين أو للسلطنة ككل.
إن كل ما تمتلكه الأكاديمية السلطانية للإدارة من مقومات حري بأن تحيط بها التطلعات الوطنية لأداء دور التمكين لتحقيق رؤية عمان 2040، ابتداء من تمتعها بالرعاية الفخرية لجلالة السلطان المعظم - حفظه الله - ومرورا بتشكيل مجلس استشاري دولي يضم أسماء ذات صيت ذائع، والارتباط الوثيق بالأولويات الوطنية عبر هيكلتها وبرامجها، وانتهاء بهوية بصرية سلطانية من الطراز الرفيع تجمع بين منحنيات الطغرائية السلطانية ومعيّنات التاج السلطاني وتتداخل لتشكل رموزا بشرية تشير إلى أن تقدم الأوطان من تقدم الإنسان.
بدر الهنائي عضو مجلس Forbes لخبراء التواصل
