الأثر الاقتصادي لتبني نهج الهوية المؤسسية
في بدايات العقد الماضي كان مما يثير اهتمام بعض المهتمين بالجوانب المتعلقة بالهوية المؤسسية المظهر الذي تبدو عليه معظم المحال التجارية والأسواق؛ حيث كانت الرتابة والتكرار يهيمنان على واجهات تلك الأمكنة بصريا ومن ناحية التسمية. ولمن لا تسعفه الذاكرة لاستحضار تلك الرتابة، فإن معظم الشوارع التجارية كانت تبدو بهذه الطريقة: بيع المواد الغذائية - مطعم ومقهى - خياطة الملابس - بيع القرطاسية والأدوات المدرسية - محل حلاقة - بيع مواد البناء - غسيل وكي الملابس - بيع العطور والكماليات - بيع أدوات زينة السيارات - مخبز يدوي. وكانت تلك التسميات توضع بخط كبير في لوحات يسميها البعض (الصندوق المضاء Lightbox) يعتليها اسم الشركة الرسمي. وقد يجوز تفسير ذلك التوجه على أنه استيفاءٌ للمتطلبات الرسمية من أجل فتح المحل أكثر من كونه محاولة لبناء هوية محددة أو لتمييز لذلك المحل؛ حيث تشترط الجهات المعنية وجود لوحة بمقاس معين تذكر بعض التفاصيل مثل اسم السجل التجاري ورقمه والنشاط المرخص له إلى جانب رقم الترخيص البلدي لتلك اللوحة.
قبل تسع سنوات تزايد الاهتمام الرسمي بقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة وريادة الأعمال، وهو ما جسدته الندوة السلطانية التي عقدت في سيح الشامخات وما خرجت به من قرارات هدفت إلى تعزيز دور قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في الاقتصاد على أصعدة مختلفة. وقد كان أحد التساؤلات التي حاول كاتب المقال إيجاد أجوبة لها آنذاك في ظل ذلك الزخم هو كيف يمكن أن تسهم ممارسات الهوية المؤسسية في ازدهار قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة في سلطنة عمان؟ بطبيعة الحال فالجواب لم يكن بتعقيد علم الصواريخ؛ حيث أن النظريات المتأسسة على أيدي الكثير من الخبراء والأكاديميين، والممارسات العملية التي اتبعتها العديد من المؤسسات الناشئة حول العالم، والتجارب الدولية التي أولت اهتماما بهذا الجانب بيّنت الإمكانات التي يمكن أن تحققها ممارسات الهوية المؤسسية بالنسبة لقطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. بالإضافة لذلك فإن عددا لا بأس به من رواد الأعمال العمانيين في ذلك الوقت بيّن تقبلا كبيرا لتبني تلك الممارسات من أجل تسريع نمو مؤسساتهم وتمييزها عن منافسيها، والذي ربما قاد لاحقا إلى تأسيسهم لثقافة جديدة محليا تنظر لممارسات الهوية المؤسسية على أنها إحدى أدوات الأعمال Business Tools بالنسبة لشركاتهم.
إن امتلاك المؤسسة - أيا كان نوعها أو حجمها أو طبيعة عملها - هوية مؤسسية يمكن اعتباره أنه الوعاء الذي يسهل فيه جمع الارتباطات الذهنية والعاطفية المتولدة لدى جمهورها المستهدف، والإشارة التي بظهورها يمكن استحضار جميع تلك الارتباطات الذهنية والعاطفية - مهما بلغ تعقيدها - بسرعة وسهولة. ولذا وبمحاولة إسقاط ذلك التفسير على الانتشار الواسع لممارسات الهوية المؤسسية بشكل عام وفي قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة بشكل خاص، فإن تلك الممارسات تسهل على رواد وأصحاب الأعمال تمييز مؤسساتهم باعتبارات مختلفة مثل القيمة أو تجربة الزبون أو جودة الخدمة أو المنتج أو المذاق أو التنوع أو الخصوصية أو التطور التقني أو السهولة أو حتى الولاء تجاهها، وهو ما يعطي المؤسسة هامشا أوسع للربح عبر وضع أسعار أعلى قيمة من المؤسسات الأخرى التي لا تمتلك بالضرورة ارتباطات ذهنية وعاطفية واضحة. وكنتيجة مباشرة لذلك ستتمكن المؤسسة من تسريع وتيرة نموها وتسهيل استهداف شرائح أكبر من الجمهور وربما الدخول في تحالفات مع مؤسسات أخرى أو حتى زيادة قابليتها للاستحواذ أو استقطاب المستثمرين أو الشركاء.
إن هذا النموذج لا تقتصر جدواه على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة فقط، حيث تعتبر الهوية المؤسسية أحد أهم الأصول غير الملموسة Intangible Assets والتي بتنميتها والاهتمام بها يمكن أن تضيف قيمة أعلى للمؤسسة، وهو ما تفسره التقارير التي تصدرها بعض المؤسسات العالمية المختصة في تقييم الهويات المؤسسية للشركات، والتي تضع قيما عالية قد تشكل أحيانا نسبة تصل إلى 10% من قيمة المؤسسة ككل. وربما يكون أحدث الأمثلة الواقعية على الرصيد الذي يمكن أن تختزنه الهوية المؤسسية قيام جراح القلب الأمريكي ومقدم البرنامج الحواري الشهير (د. أوز Dr Oz) باستخدام شعار برنامجه المميز واسم شهرته في حملته الانتخابية لمجلس الشيوخ الأمريكي لهذا العام ممثلا عن ولاية بنسيلفانيا. لقد سخر الدكتور أوز الوعاء الذي اختزل كافة الارتباطات الذهنية والمنطقية التي بناها في دواخل جمهوره طوال 13 موسما ليسهل عليه الفوز بأكبر عدد ممكن من الأصوات في الانتخابات المقبلة.
وبعيدا عن ما يمكن الاستشهاد به من دراسات وإحصائيات دولية حول الآثار الاقتصادية لقطاع الهوية المؤسسية وإسهامه في الناتج المحلي الإجمالي لاقتصاديات الدول وتعزيز الأنشطة التجارية ونمو المؤسسات - وهي متوفرة بكثرة لمن أراد البحث والاستزادة - ومن أجل تبسيط مفهوم القيمة الاقتصادية التي يمكن أن تتحقق عبر ممارسات الهوية المؤسسية، قد يصادف البعض أثناء قيادة سيارته لوحات إعلانية لمهرجان سنوي لسباقات الإبل، والذي كان يمكن أن يقام - كما كان في السابق - دون الإنفاق على بنود متعلقة بالهوية البصرية والتصميم والمساحات الإعلانية ومحتوى الشبكات الاجتماعية. لكن في الواقع فإن هذه الممارسة تسهم في نمو عدد من الشركات العاملة في المجالات المذكورة أعلاه، والتي ستتمكن هي الأخرى من ضمان استمراريتها في التوظيف، ومشاركة العائدات المتحققة من تلك الأعمال مع مؤسسات أخرى في مختلف مراحل سلسلة القيمة. أما بالنسبة للمهرجان نفسه فإن أبرز ما يمكن تحقيقه هو تعزيز الصورة الذهنية تجاهه والانتقال به من مهرجان يستهدف المهتمين بسباقات الإبل العربية والمجالات المرتبطة بها إلى استقطاب شرائح أوسع تجد في المهرجان جانبا ترفيهيا، وباستقطاب المزيد من الزوار فإن مختلف الأنشطة المصاحبة للمهرجان ستشهد حركة تجارية تعود بالنفع على مختلف الأطراف. إن من المأمول أن تتحول النظرة السائدة تجاه ممارسات الهوية المؤسسية من كونها ترفا أو كماليات تكون أول ضحايا خفض الإنفاق المؤسسي والحكومي حين تشتد الأمور، لينظر إليها كممكّن للسياسات والأعمال والأولويات التي قد لا يكون النجاح حليفها دون أن تحظى هي الأخرى بأوعية يسهل على الجمهور تجميع الارتباطات الذهنية والعاطفية فيها.
• بدر بن عبدالله الهنائي مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية
