استراتيجية «الثمانية العظيمة» وقواعد اللعبة الكلاسيكية

12 مارس 2024
12 مارس 2024

تتشابه سيناريوهات وضع استراتيجيات العمل كثيرًا في معظم فرق العمل، ففي البدء يتم وضع الأهداف بطموح، ثم يقوم الفريق برسم أهداف وركائز الاستراتيجية، وتحديد مخطط التنفيذ عبر مشاريع متوسطة وطويلة المدى مع مؤشراتها المتعددة المستويات، وهكذا تخرج الاستراتيجية بصورة مثالية، ولكن واقع التنفيذ يثبت بأنها غير مجدية من الجانب العملي التطبيقي، وبأن ترجمة الطموح إلى واقع هي مهمة ليست سهلة المنال، وإذا ما قام الفريق بتقييم أسباب عدم تحقيق الأهداف يكون التفسير دائمًا هو عدم فهم فريق التنفيذ لهذه الاستراتيجية المثالية، وهناك مقولة شهيرة تتردد بكثرة في مجلات ودوريات الأعمال مفادها: «يحتاج التنفيذ لاستراتيجيات عمل، ولكن غالبًا ما تبدو الاستراتيجية معقدة، وهذا لا يعود لكونها في الأصل مركبة وشائكة، ولكن لأن الأكاديميين والمستشارين وغيرهم من الخبراء والممارسين يستفيدون من هذا التصور العام بأنها معقدة»، فهل فكرتم يومًا في الدوافع وراء حرص المديرين التنفيذيين على وضع استراتيجية العمل متطلبًا أساسيًا في التنظيم الإداري المؤسسي؟ وكم تبلغ القيمة السوقية لقطاع الاستشارات الاستراتيجية العالمية؟ وفيما إذا كان سبب فشل الخطط الاستراتيجية أحيانًا هو ميل المخططين في المبالغة في تعقيدها بوضع أهداف طموحة بشكل جارف وبعيد عن الواقع؟

تعالوا نبدأ من منشأ التحدي؛ وهو كيف ينظر متخذو القرار إلى استراتيجية العمل كمفهوم وممارسة، وكيف ينظر المعنيون بالتنفيذ إلى الأمر من زاوية مختلفة تمامًا، وعلى مستوى الإدارات العليا فإن الاعتقاد السائد حول الخطط الاستراتيجية هي بأنها في الأساس وثائق عمل معقدة المفاهيم، وأن السبيل إلى الإتقان في وضعها يرتبط بقدرة المخططين على تيسير الفهم الكافي لهذه المفاهيم النظرية المركبة، واقتراح برامج تنفيذية تسعى لإدخال تغييرات جذرية وواسعة المدى، ولذلك تسعى الكثير من المؤسسات لاستجلاب بيوت الخبرة الاستشارية، وعلى الرغم من أن المختصين بأعمال المؤسسة يدركون بشكل كاف أن التحديات التي تعترض تحقيق الأهداف يمكنها أن تبتلع الطموحات الكبيرة في الاستراتيجية، إلا أن الجاذبية التي تمتلكها عملية وضع الاستراتيجية تحول دون الالتفات إلى هذه النقطة المهمة، وبذلك يتم وضع أهداف محكوم عليها مسبقًا بأن لا ترى النور، وحينما تدخل الاستراتيجية مرحلة التنفيذ تظهر التحديات المعيقة التي تزيح الخطة من نطاق الواقعية، وتضعها مع مثيلاتها من الحالات المعروفة بمسمى «استراتيجية على الورق».

والمتتبع لنماذج الأعمال في الشركات الرائدة يجد الكثير من الأمثلة التي تؤكد بأن الاستراتيجيات الطموحة التي تعد أرضًا خصبة للمنظرين هي ليست رائعة كما تبدو في الظاهر، والأهداف الجريئة تدمر الشركات في كثير من الأحيان، وأكثر بكثير مما يعتقد المسؤولون بالتنفيذ، تعالوا نتوقف عند قصة بنك ويلز فارجو (Wells Fargo)، ففي عام 2011م قام البنك بتطوير استراتيجية جديدة تستهدف بناء علاقات عمل مصرفية طويلة الأمد، وذلك بتحفيز مستخدمي المنتجات المصرفية على تجريب مختلف الخدمات، في ذلك الوقت كان الرئيس التنفيذي للبنك هو المصرفي المعروف جون ستومبف، وأطلق على استراتيجية العمل هذه اسم «الثمانية العظيمة»، وذلك بعد اعتماد قرار كبار المسؤولين التنفيذيين باستهداف زيادة في استخدام الخدمات والمنتجات المصرفية من عددها الحالي الذي كان يتراوح من ثلاثة إلى أربعة منتجات، وإيصالها إلى ثمانية، وبالفعل بدأ العملاق المصرفي ويلز فارجو بقياس مدى نجاح الشركة في تنفيذ هذه الاستراتيجية عبر تتبع نسبة الزيادة في شراء المنتجات المصرفية، وبصورة أدق قام البنك بقياس أداء الموظفين ومكافأتهم على أساس قدرتهم في رفع عدد المنتجات المصرفية المختلفة التي يتم

إتاحتها للمتعاملين من الودائع وبطاقات الائتمان، إلى قروض السيارات والرهون العقارية، ونظريًا كان هذا المؤشر يعادل ويعكس الهدف الاستراتيجي لبناء علاقة عمل طويلة الأمد بين البنك والمتعاملين، وبدا كل شيء مثاليًا على الورق، ولكن السنوات القليلة التي تم فيها تنفيذ هذه الاستراتيجية أثبتت بأن الأمور قد سارت بشكل خاطئ، وانحرفت كليًا عن الهدف الأساسي، إذ إنه ومع سعي الموظفين لتحقيق المستهدف من مؤشر القياس ظهرت حالات فتح الحسابات الوهمية، والبيع الاحتيالي للخدمات المصرفية، مما أوقع البنك في مأزق كبير بعد أن اهتزت محاور الثقة والمصداقية، والسؤال هنا كيف خرجت الأمور عن المسار؟

أشار المحللون إلى أن استراتيجية الثمانية العظيمة قد خالفت النهج الاستراتيجي الكلاسيكي، وذلك باختيار أدوات التنفيذ غير المناسبة، وهذا ما عبرت عنه الصحافة مجازيًا بعبارة: لا يمكنك أن تدق مسمارًا بوسادة أريكة، حتى لو كنت نجارًا متمرسًا، وقواعد اللعبة الكلاسيكية تؤكد بأن وضع استراتيجية عمل لا يضمن الوصول الآمن للأهداف، إذ مهما كانت هذه الاستراتيجية رائعة إلا أن الفشل يكون واردًا إذا صار الطموح في حد ذاته يقوض التنفيذ، وفي حالة العملاق المصرفي ويلز فارجو فإن سبب الفوضى التي حدثت مع تنفيذ استراتيجية الثمانية العظيمة هو الميل السلوكي للخلط بين ما يتم قياسه من الهدف وبين المقياس المستخدم، وهو ما يسمى بظاهرة الاستبدال الحتمي أثناء مرحلة تنفيذ الاستراتيجية، وهي ظاهرة شائعة جدًا يدخل فيها فريق التنفيذ حلقة مفرغة من مطاردة مستهدفات مؤشرات القياس دون النظر إلى الهدف الاستراتيجي الذي يتم تحقيقه، وفي حالة البنك تم تشجيع الموظفين على ترويج المنتجات المصرفية وزيادة التعاملات لارتباطها بأدائهم الوظيفي الفعلي وما يترتب عليه من مكافآت وترقيات، وأما هدف بناء علاقات طويلة الأمد مع المتعاملين والمستفيدين فقد انحسر نهائيًا من المشهد، وبذلك فإن موظف البنك بهذه الطريقة لا يختلف كثيرًا عن مندوب المبيعات الذي يحرص على إتمام عملية بيع المنتجات مقابل عمولة المبيعات، وأثناء هذه العملية يمكن أن تأخذ العملية مسارات غير صحيحة وتتعارض بشكل كامل مع أهداف الاستراتيجية التي تسعى في الأساس لتنفيذها.

وإذا عدنا للسؤال الأول عن مدى حرص المديرين التنفيذيين على وضع استراتيجية العمل، فإن البيانات التقديرية تشير إلى أن قيمة سوق الاستشارات الاستراتيجية العالمية سوف تصل إلى (50) مليار دولار في عام 2025م ومن المتوقع أن تصل إلى (100) مليار دولار بحلول عام 2030م، وهذا يعكس اهتمام قادة الأعمال بوجود مسارات عمل توجيهية مثل الاستراتيجيات طويلة الأمد، وبالعودة إلى قصة بنك ويلز فارجو يمكننا أن نستخلص عدة دروس، أولًا أن التعقيد النظري للاستراتيجية ليس هو المشكلة الرئيسية في فشل تحقيق الأهداف، ولكن نقص التوافق بين مؤشرات القياس وترابطها بالهدف يتصدر قائمة أسباب الفشل، وإذا بحثنا في جذور هذه المشكلة نجدها تكمن بشكل أساسي في قلة مشاركة الجهات المعنية بالتنفيذ في عملية إعداد الاستراتيجية، ويعد ذلك إخلالًا بقواعد اللعبة الكلاسيكية، والتي تنص على حتمية إشراك الجهات المسؤولة عن تنفيذ الاستراتيجية في عملية صياغتها منذ البداية، وذلك للوصول إلى القدر الكافي من الفهم المشترك للأهداف العليا الكامنة وراء مؤشرات القياس التي هي في الأصل أدوات دالَّة على تحقيق الأهداف الاستراتيجية العامة وليست في حد ذاتها أهدافًا، وهذا هو الدافع الرئيسي وراء خروج الباحثين والممارسين بمنهجية تصميم عملية التخطيط عالية المشاركة (High Intensity Participatory Planning HIP) وذلك لإشراك جميع الأطراف المعنية في التنفيذ، والجهات المستفيدة من مختلف نطاقات الاستراتيجية، وهذا النهج يختلف بشكل جذري عن الطريقة الاعتيادية التي تعتمد على تكليف بيوت الخبرة الاستشارية بالعمل مع المديرين التنفيذيين والخروج بوثيقة الاستراتيجية يتم إسقاطها تدريجيًا من أعلى الهرم المؤسسي إلى التقسيمات المختصة بالتنفيذ

والمتابعة، إذ إن عملية التخطيط عالية المشاركة تخلق زخمًا استثنائيًا من المدخلات المتعددة، وبذلك يصبح لكل الشركاء والفاعلين صوتٌ في تحديد الاتجاه الاستراتيجي والأهداف والتطلعات، وهكذا يتشكل الفهم المشترك الذي يدعم تتبع المؤشرات التي تغذي فعليًا الأهداف العامة دون انحراف كلي، أو تمدد في النطاق.

إن نهج التخطيط عالي المشاركة ليس اجتهادًا لحل تحديات فشل التنفيذ، ولكنه بمثابة إعادة اكتشاف قواعد اللعبة الكلاسيكية في التخطيط الاستراتيجي التي طالما اقتصرت على تحديد الأهداف الطموحة من مبدأ التفكير خارج الصندوق، والبحث عن معالجات للتحديات الجديدة التي يجب التغلب عليها أثناء ترجمة الاستراتيجية إلى برامج تنفيذية، ومحور التفاضل هنا هو توظيف المعرفة الكلية والذكاء الجمعي لرفع مستوى التفكير في وضع الرؤى التي يتطلع إليها جميع المشاركين، ويستشعرون الثقة بالتمكين والاستعداد لتحقيقها، وبذلك يمكن للجميع رؤية الصورة الكبيرة، والتي تنقل المشاركة إلى مستوى التكامل في الأدوار بدلًا من تسليم الأدوار، وتحفز فريق التنفيذ للمحافظة على نطاق العمل، فالجميع على دراية بالأسئلة المحورية: أين نحن؟ وإلى أين نتجه؟ وكيف نخطط للوصول إلى هناك؟ والأهم من ذلك، ما الذي يعنيه كل هذا العمل بالنسبة لواقع ومستقبل المؤسسة، وبذلك يتم إضافة قاعدة جديدة لقواعد اللعبة الكلاسيكية في التخطيط الاستراتيجي وهو: «عندما تلجأ إلى أعلى مستوى من التفكير التشاركي، فإنك تحصل على أعلى مستوى من الأداء».

د. جميلة الهنائية باحثة في سياسات العلوم والتكنولوجيا والابتكار