إعصار شاهين.. الثقة والمرونة المجتمعية
مبارك بن خميس الحمداني
عَبَر شاهين، وترك العديد من العِبر، أهمها التأكيد على أن المجتمع في عُمان قادر على استدعاء رصيد (الثقة الاجتماعية social trust) وتوظيفها في أوقات الأزمات بالشكل الأمثل، وليس أكثر دلالة على ذلك من مشهد 8 أكتوبر 2021 الذي ترجم اعتبارات الثقة الاجتماعية إلى تطبيقات على أرض الواقع، قادتها ثلاثة عناصر أساسية: الاستعداد الطبيعي والعفوي للأفراد للانتظام في سبيل العون، الإيثار الاجتماعي، بالإضافة إلى القدرة على تسخير المقدرات مهما كانت محدوديتها لتسريع التعافي ومعالجة أثر الكارثة. إن الثقة الاجتماعية كما هي في توصيف عالم الاجتماع جيمس كولمان في حقيقتها قبول الناس للعمل الجماعي مع تحييدهم للاحتياجات الذاتية في مقابل الانخراط في تحقيق الاحتياجات الجماعية، والقبول بالمخاطرة للعمل في سبيل الجماعة الاجتماعية. وهي في الآن ذاته كما أكد عالم الاجتماع المعاصر أنتوني غدنز مرتكز مهم في بناء المجتمعات المعاصرة، بل وأصبحت شرطًا ملحًا من شروط التنمية الاقتصادية، وترتبط مستويات قياسها بأوجه النمو الاقتصادي والرفاه والقدرة على مضاعفة الإنتاج في المجتمعات الحديثة.
يمكننا تطوير خلاصات لفهم الثقة الاجتماعية في عُمان في أعقاب مشهد 8 أكتوبر 2021، قد تسهم هذه الخلاصات في البرامج والمبادرات التي تستهدف تعزيز مستويات هذه الثقة باعتبارها مرتكزًا رئيسًا من مرتكزات رأس المال الاجتماعي، وهذا النموذج يمكن أن نلخصه في ثلاثة اعتبارات أساسية:
- يؤكد المشهد أن نمط الثقة الاجتماعية الذي يحفل به المجتمع في عُمان هو ما يعرف في علم الاجتماع بنمط الثقة المتوارثة inherited trust وهذا النمط من أنماط الثقة ينتقل عبر الدورة الجيلية، ولا تؤثر فيه معطيات التغير الثقافي والجيلي بشكل موسع نتيجة رسوخ دور المؤسسات الاجتماعية الرئيسية. وبالتالي فإن عملية تعزيزه واستدامته إنما تكون عبر تعزيز دور هذه المؤسسات والتأكيد على محوريتها في السياسة الاجتماعية العامة.
- يؤكد المشهد أيضًا على أن نمط الثقة الاجتماعية هو من أنماط الثقة القائمة على الأخلاق أكثر من أنماط الثقة القائمة على المصالح، وبحسب الدراسات التي أجراها كاتز وروتر فإن مرد هذا النوع من الثقة هو أن هذه القيمة الأخلاقية اكتسبها الأفراد في وقت مبكر من حياتهم إلى حد كبير من والديهم، وتشكلت من خلال معاينة الميل الطوعي والطبيعي للتطوع والخيرية والمساندة الاجتماعية، وعليه فمن خلال هذه الخلاصة يمكننا القول إن إدماج قدرات ومهارات التطوع وتعزيز قيمه ومبادراته وإبراز نماذجه وتعظيم منافعه، إنما يخلق للأجيال الناشئة تعزيزًا لرصيد الثقة الاجتماعية القائمة على الأخلاق وهي بالتأكيد أكثر استدامة من الثقة الاجتماعية القائمة على المصالح.
- يخالف المشهد كذلك الفرضيات التي جاءت بها بعض منظورات الثقة الاجتماعية في علم الاجتماع والتي ركزت على تأثير الاختلافات الثقافية بين الأفراد على مستويات الثقة بينهم، ولكن ما يتجسد بأن حالة الانسجام الثقافي والوئام المجتمعي عززت رصيد الثقة المجتمعية ودفعت به نحو أن يكون أداة مهمة من أدوات مواجهة الأزمات والكوارث والتعافي اللاحق منها.
يستوجبنا القول إن مشهد 8 أكتوبر 2021 يؤكد على ضرورة الاستثمار في بعدين أساسيين: (قوة التطوع - طاقات العمل المدني) وإن تشكيل قوة مركزية لمؤسسات المجتمع المدني العاملة في نطاقاتها الثلاثة (الخيرية - المهنية - المرأة) وتأهيلها لمواجهة الأزمات والكوارث، سيسهم أيضًا على المدى البعيد في ترسيخ دور هذه المؤسسات في تعزيز الثقة الاجتماعية. كشفت المسوحات التي أجريت بعد سنوات في أعقاب إعصار إيلا الذي ضرب بنغلاديش وشرق الهند أن مؤسسات المجتمع المدني كانت الفاعل الرئيس في جهود (الإنقاذ - الإغاثة - التعافي) بعد الكارثة وقد عملت في عدة مجالات تم تشخيصها، منها:
ما قبل الكارثة من خلال: تدريب وبناء قدرات موظفي المنظمات غير الحكومية وفرق العمل، إنشاء قناة معلومات للقرى والمناطق المعرضة للضرر؛ المناصرة والتخطيط لجهود احتواء الكارثة.
أثناء الكارثة من خلال: إيجاد قنوات اتصال منتظم بغرفة التحكم الرئيسية ومراكز إدارة الأزمة، تفعيل قنوات لنشر الإنذار للوصول إلى الفئات المستهدفة، مساعدة إدارة الكارثة لنشر التحذير على نطاق واسع ؛ الإنقاذ الفوري والإسعافات الأولية، بما في ذلك المساعدة النفسية، والإمداد بالغذاء والماء والأدوية وغيرها من المواد اللازمة بشكل عاجل.
ما بعد الكارثة: ضمان الصرف الصحي والنظافة العامة، تقييم الضرر العلمي بمنهجية ما بعد الكارثة، المساعدة الفنية والمادية في إعادة الإعمار، المساعدة في طلب المساعدة المالية، المراقبة وحوكمة وتنظيم عمليات العون والإغاثة وقيادة التعافي المستدام.
الأمر الآخر الذي نشير إليه في هذه المقالة هو ضرورة تفعيل حقل دراسات (مرونة المجتمعات) وهو حقل ناشئ متعدد الاختصاصات، ويجمع غالبًا ما بين علوم الهندسة والعلوم الاجتماعية، واستخدمت تطبيقاته بشكل موسع في أعقاب إعصار ماثيو الذي ضرب ولاية كارولينا الشمالية في عام 2016 والفرضية الأساسية التي يقوم عليها هذا الحقل أنه للكشف عن مرونة منطقة معينة في وجه الكوارث البيئية والطبيعية تحديدًا، لابد من الأخذ في الاعتبار إلى جانب الأبعاد الهندسية والتخطيطية، الأبعاد المتعلقة بالسكان أنفسهم، الطبيعة الديموغرافية، القدرة على الصمود المادي، أنماط الدخل، وطبيعة المسكن، والقوى الاجتماعية والاقتصادية للمنطقة التي ينشط فيها السكان بما فيها المنظمات غير الحكومية ومؤسسات المجتمع المدني، وتكوين مصفوفة تلتقط الجوانب التفاضلية والتوزيعية للتأثيرات المباشرة للكارثة أو الأزمة على المنطقة، وفهم حاجات الإجلاء والإزاحة ما قبل، وحاجات وأولويات الإغاثة فيما بعد الكارثة أو الأزمة. ونعتقد أن تطوير دراسات أولية في هذا الحقل من الممكن أن يعضد الجهود الوطنية في إدارة الأزمات والمنظومات القائمة. ويوجه العديد من اعتبارات التخطيط الإسكاني والعمراني تحديدًا في اتجاه تعزيز المرونة المجتمعية Community Resilience وتعضيد أركانها.
عَبَر شاهين نعم، ولكنه رغم الضرر الواسع، خلف مشاهد ملحمية من قلب المجتمع في عُمان، وساهم في تخليق ذاكرة خالدة لشعب عظيم هب للعون والبذل والعطاء بمختلف ظروفه وتمركزاته الجغرافية ومقدراته المتفاوتة، عَبَر شاهين ليقول إن «عُمان عظيمة بشعبها».
