إدارة الهويات التسويقية للدول
في معرض الحديث عن تقييم الهويات التسويقية ورد اقتباس المقولة الإدارية الشهيرة التي تقول بأنه لا يمكن إدارة ما لا يمكن قياسه. والآن وبعد تسليط بعض الضوء على أسس تقييم الهوية التسويقية للدول، وأهم الاعتبارات التي يؤخذ بها خلال تلك العملية، وكيف تنعكس نتائج تلك التقييمات على تنافسية الدول من حيث جاذبيتها للاستثمارات واستقطابها للسياحة وجلب المواهب والكفاءات؛ فإن من المهم الوقوف على مبادئ إدارة الهوية التسويقية للدول وما هي العناصر التي ينبغي العمل عليها من أجل بناء هوية تسويقية متكاملة تسهم في وضع الدولة على خارطة التنافسية عالميا. وبالحديث عن هذا المفهوم فإن من المهم استذكار أحد تعريفات الهوية التسويقية للدول الذي يرتبط بشكل مباشر بجانب إدارتها، حيث يميل بعض المختصين إلى تعريفه بأنه "عملية استكشاف وصناعة وتطوير وتحقيق الأفكار والمفاهيم التي تعيد تشكيل الصورة المرتبطة بالدولة ومكانتها المميزة، وكنتيجة تلقائية صياغة شخصيتها المتعلقة بالجهود والاستثمارات في البنى الملموسة - مثل الطرق والأبنية - وغير الملموسة - مثل الفعاليات والقصص - ومنظومة المؤسسات والرموز والعناصر البصرية المميزة.
يجمع كثير من خبراء صناعة هويات الأمكنة Place Branding على أهمية اتباع أساليب الرواية والسرد القصصي في ترويج الأمكنة - مدنا أو مناطق أو وجهات أو دول - ويرجع عدد منهم أهمية ذلك إلى أن الازدهار الاقتصادي يمكن أن يتحقق بعناصر من أهمها القدرة على استقطاب الاستثمارات والذي بدوره لا يمكن أن يتحقق دون ممارسات التواصل التي ترتكز على السرد القصصي. ويمكن لهذه الممارسة أن تؤدي دورا هاما في شرح الأسباب التي لأجلها يتوجب على الشخص زيارة الدولة للسياحة، أو أن يفتح مشروعه الاستثماري فيها، أو قدومه إليها للعمل في القطاعات الواعدة. وبالرغم من ذلك إلا أن هنالك من الخبراء من يعتقد بأن هذه الممارسة لوحدها لا تكفي؛ حيث أنه من المهم أن ترتبط أنشطة التواصل التي تقوم بها الدول في سبيل تعزيز هويتها التسويقية بالأفعال على أرض الواقع. كما أن هنالك اعتبارا هاما يتمثل في أن أنشطة التواصل المبنية على منهج الرواية والسرد القصصي بقدر ما يتم توجيهها إلى الخارج، فإن من المهم أيضا ترسيخها لدى الجمهور الداخلي - أي قاطني تلك الدولة من مواطنين ومقيمين - من أجل تجسيد القيم والارتباطات التي تضعها الدولة ضمن أولوياتها وتصبح جزءا من التجربة الواقعية لكل شخص عبر مختلف نقاط التماس التي يمكن أن يمر بها.
ويمكن الاستشهاد هنا بتجربة مدينة ديترويت الأمريكية وكيف قامت بتوجيه أنشطة التواصل المتعلقة بهويتها لتكون امتدادا متجددا لصورتها الراسخة كمدينة للسيارات - بسبب احتوائها على مصانع العديد من شركات السيارات الأمريكية - ونتيجة لذلك اكتسبت موضعة جديدة لها كمدينة للإبداع الصناعي والتصميم المتين والهندسة المتميزة. وقد استطاعت مدينة ديترويت تعزيز هويتها عبر الارتباطات المتبادلة بينها وبين هويات شركات السيارات الموجودة فيها، حيث تستحضر الذاكرة بالحديث عن هذا الجانب الإعلان الترويجي لشركة كرايسلر للسيارات يركز في أكثر من تسعين بالمائة منه على مدينة ديترويت ذاتها والخصائص التي تميزها عن غيرها من المدن الأمريكية ونماذج من تجليات هويتها مثل البنية الأساسية والكوادر البشرية والتنوع العرقي وصولا إلى فنان الراب الشهير إيمينيم مختتما الإعلان بعبارة "هذه مدينة السيارات، وهذا ما نفعله" منطلقا على متن سيارة كرايسلر الجديدة ويظهر شعار الشركة مع عبارة "مستوردة من ديترويت".
ومن العناصر الأخرى التي يمكن اعتبارها في معرض الحديث عن إدارة الهوية التسويقية للدول جودة الحياة فيها؛ ولا يقتصر ذلك على أهمية هذا العنصر بالنسبة لمؤشرات التقييم العالمية، بل يمتد تأثيره إلى نظرة الجمهور الداخلي - القاطنين في تلك الدولة - والجمهور الخارجي - المستهدف من خلال أنشطة بناء الهوية التسويقية للدولة - والتي تؤثر كنتيجة نهائية على قراراتهم تجاه تلك الدولة. ويشمل مفهوم جودة الحياة عناصر مختلفة من بينها جودة خدمات التعليم والرعاية الصحية، ومستوى المعيشة، والأمن والأمان، ومدى جاذبيتها للعيش والعمل والدراسة. ويمكن الإشارة هنا إلى تفوق الدول الإسكندنافية واليابان وألمانيا ولوكسمبورج والنمسا وكندا في هذا الجانب وفقا لمؤشرات تقييم الهوية التسويقية للدول الذي قامت به مؤسسة فيوتشر براند العالمية.
كما يدخل ضمن أهم عناصر الهوية التسويقية للدول مدى التزامها تجاه البيئة - أو كما يسميه بعض المؤمنين بالقضية مهمة إنقاذ الأرض - عبر وجود التشريعات والممارسات والالتزامات الدولية من أجل مواجهة الاحتباس الحراري عبر التقليل من الانبعاثات الكربونية والإعلان عن الجداول الزمنية المستهدفة من أجل الوصول إلى معدل صفر للانبعاثات الكربونية Net Zero. بالإضافة لذلك، يبرز مفهوم بلد المنشأ Country of Origin كأحد العناصر التي تدخل في تكوين الهوية التسويقية للدولة؛ حيث تعتبر المنتجات والخدمات التي تنتجها الدولة أحد أبرز الرموز المعبرة عنها، إضافة إلى كونها وسطا هاما لتجسيد القيم والارتباطات التي تهدف الدولة إلى إيصالها للجمهور المستهدف، ولذا فإنه يجدر بالدولة ضمان وجود التشريعات والنظم والمعايير التي تضمن اتساق ما تعبر عنه تلك المنتجات والخدمات مع مكونات هوية الدولة ذاتها. ويميل بعض المختصين إلى اعتبار قطاع السياحة - وهو أحد أكثر القطاعات استفادة من الهوية التسويقية للدولة - منتجا يمكنه التأثير في هوية الدولة بشكل كبير، الأمر الذي يدعو إلى الإلمام بكافة جوانب ارتباط قطاع السياحة بهوية الدولة.
وختاما - وخصوصا فيما يتعلق بسلطنة عمان ومدى إمكانية تعزيز هويتها التسويقية - فإنه يمكن الاستدلال بمقال نشره كونراد جاجودزينسكي مدير حوارات الهوية في مؤسسة براند فاينانس حول مفهوم التعاون بين الدول وكيف يمكنه الإسهام في بناء هوية تسويقية واضحة وقوية للدولة، وخصوصا مع آفاق تشارك القيم والارتباطات بين هويات الدول التي تسعى إلى تجسيد التعاون بينها، والذي بدوره يمكن التطلع إلى ما يمكن أن يتحقق مع الزخم الحاصل في العلاقة بين سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية بشكل عام، وما يتعلق بالتكامل الاقتصادي بينهما بشكل خاص.
* مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية
