أوروبا ومخاطر سياسة القطيع ضد روسيا!!

29 أغسطس 2022
29 أغسطس 2022

بعد مرور أكثر من ستة أشهر على الحرب الروسية في أوكرانيا، أو بمعنى أدق الصراع الروسي-الغربي في أوكرانيا، فإنه يمكن القول بأن صورة الصراع بأطرافه وملامحه وغايات الأطراف المختلفة منه قد تبلورت واستقرت إلى حد كبير، وعلى نحو يسمح بتناول بعض مواقف الأطراف المختلفة ودوافعها الكامنة وراء الكثير من المزاعم والادعاءات التي أثبتت الأحداث والتطورات عدم صحتها، بل وضعفها على نحو واضح، وذلك على الجانبين الروسي والغربي، وما يترتب على ذلك من نتائج دفعت وتدفع ثمنها ليس فقط شعوب الدول المتورطة في تلك الحرب، بل شعوب العالم جميعها، وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى ما يلي:

أولا: إن الأسباب الحقيقية للحرب، سواء على الجانب الروسي أو الغربي، ممثلًا في الولايات المتحدة وحلف الأطلنطي والاتحاد الأوروبي، ليست هي المبررات التي تم إعلانها على هذا الجانب أو ذاك، فالمبررات تصاغ وتقدم عادة من أجل تقديم الوجه الطيب أو الأفضل لسياسات الطرف المعني، ومحاولته كسب التأييد أو على الأقل التعاطف لموقفه على المستويين الداخلي والخارجي، مع إظهار نفسه كمدافع عن الشرعية الدولية وقواعد القانون الدولي ومبادئ الحرية والديمقراطية بوجه عام، حتى وإن كان يرتكب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على الأرض، ويمارس مختلف أساليب الخداع والدعاية السياسية على الصعيد الإعلامي لخدمة موقفه وسياساته.

وعادة ما يثير ذلك الكثير من الخلط والتداخل بين المفاهيم وإيجاد حالات من الغموض والتشويش لدى الكثيرين من الذين يتابعون التطورات ويرغبون في الوقوف على حقائقها أو على الأقل أكبر قدر منها.

وهذه مسألة ليست جديدة ولا حديثة في العلاقات بين الدول، وحتى بين الأفراد والجماعات المتصارعة في المجتمعات المختلفة منذ قرون. وعلى ذلك فإنه لم يكن غريبًا أن تظهر ومنذ وقت مبكر مفاهيم ونظريات «الحرب المشروعة» و«الحرب العادلة» و«حرب الدفاع الشرعي عن النفس» و«الحرب الاستعمارية لتمدين الشعوب الأخرى» وليس لنهب مواردها في الواقع، و«الحرب العدوانية» و«حرب التحرير الوطني» وصولًا إلى تقنين «مبدأ الضمان الجماعي بموجب» ميثاق الأمم المتحدة، وكذلك مبدأ «حق التدخل» وفقًا للقانون الدولي الإنساني، لوقف عمليات القمع الداخلي التي يتعرض لها شعب دولة ما من جانب السلطات الحاكمة له، و«الحرب ضد الإرهاب» وقد شهدنا ولا نزال نشهد العديد من المواجهات المسلحة والحروب وأعمال العدوان والقتل التي تدفع الشعوب ثمنها والتي يحرص مرتكبوها على وصفها بصفات جذابة ورنانة وكأن أصحابها يقومون بتنفيذ مهمة أخلاقية لصالح من يستهدفونهم بالحرب والسلاح، ولعل ما ساعد ويساعد على اختلاط وتقاطع المفاهيم هو أن المجتمع الدولي بمؤسساته العديدة وفي مقدمتها الأمم المتحدة لم تتوصل بعد إلى تعريفات محددة، شاملة ودقيقة، لمعاني الحروب السابق الإشارة إليها والتوقف في أفضل الحالات عند ملامح أو جوانب عامة وقابلة للكثير من التفسيرات لمعاني الإرهاب والعدوان ومقاومة المحتل وحتى الدفاع الذاتي عن النفس وشروط تطبيق مبدأ الضمان الجماعي ضد العدوان، أو حق التدخل وفقًا للقانون الدولي الإنساني، يضاف إلى ذلك أن القوى الدولية أو الإقليمية التي تمارس ذلك تستند عادة إلى قوتها الذاتية المطلقة أو النسبية في مواجهة خصومها الأضعف بالطبع، كما تتجاهل الشرعية الدولية ومبادئ القانون الدولي بالنظر إلى ضعف المؤسسات الدولية وطبيعة النظام الدولي الراهن وسيادة مبدأ القوة حتى الآن، كما تقوم تلك القوى عبر الآلة الإعلامية والدعائية التي تخدمها بتصوير ما تقوم به على أنه جوهر الحق والقانون، بغض النظر عن أي أطماع أو مصالح وأهداف مستترة في إطار الصراع من أجل القوة والمصالح والنفوذ الإقليمي والدولي، والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى ونراها في الكثير من المناطق داخل المنطقة وعلى امتداد العالم من حولنا.

وبينما تتعلق الأطراف الأضعف بأهداب القانون والشرعية الدولية وتناشد المجتمع الدولي ومؤسساته لإنقاذها والوقوف بجانبها فإن القوى الأكبر تعمل على فرض الأمر الواقع والحصول من وراء ذلك على أكبر قدر مما يحقق مصالحها المباشرة وغير المباشرة، والمؤكد أن الحرب الروسية في أوكرانيا أو الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا يقدم نموذجًا واضحًا نعيش أحداثه وتطوراته منذ فبراير الماضي.

ثانيا: إنه إذا كانت مختلف الدول تحرص على إضفاء سمة أخلاقية، ولو مزعمة، على مواقفها لخدمة سياساتها ولكسب التأييد لها كلما أمكن ذلك، فإن المواقف على الأرض تكشف عادة الأسباب الحقيقية لتلك المواقف، فروسيا وإن كانت قد اتخذت قرارا بالحرب ضد أوكرانيا والتدخل فيها، بعد فترة من المتابعة لما أسمته انتهاكات كييف لاتفاقيتي منسك وللممارسات القمعية من جانب سلطات أوكرانيا ضد الأقلية الروسية في جنوب أوكرانيا، فإنها -موسكو- عمدت إلى إظهار أنها استنفدت الوسائل السلمية للحفاظ على مصالحها وأمنها الوطني وأن أوكرانيا والغرب لم يستجيبوا لمخاوفها وبالتالي فإنها لجأت إلى الحرب «كخيار صعب وأخير ولا مفر منه» وأن الحرب كانت واقعة لا محالة ضدها من جانب المتطرفين -النازيين- الأوكرانيين على حد قولها.

وإذا كانت روسيا تحمّل أوكرانيا والغرب مسؤولية دفعها إلى شن الحرب لحماية أمنها، فإن الأهداف الروسية من الحرب والتي وصفها بوتين قبل عدة أيام بأنها «نبيلة» قد تطورت كثيرا خلال الأشهر الأخيرة من مجرد الإشارة إلى نزع سلاح أوكرانيا وجعلها دولة محايدة وتخليصها من المتطرفين واستبعاد الإطاحة بالرئيس الأوكراني زيلينسكى، لتصل الآن إلى الحديث عن أوكرانيا مختلفة، وأن أوكرانيا بشكلها القديم انتهت، وعن استفتاءات لضم مناطق أوكرانية إلى روسيا وعن الإطاحة بالرئيس الأوكراني -حديث لافروف ذاته- وعن معارضة ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، وعن استعادة روسيا لقدرتها على الفعل وعن ضرورة إعادة بناء النظام الدولي وانتهاء الأحادية القطبية وهذه أهداف تتجاوز بكثير أوكرانيا ذاتها.

وعلى الجانب الغربي، الأمريكي والأوروبي وحلف الناتو أيضا، فإنه مع الوضع في الاعتبار أن أمريكا والناتو قد هيئا الفرصة لدفع موسكو وتوريطها في شن الحرب على أوكرانيا، بعد أن تحولت كييف إلى قفاز غربي، نكاية في موسكو وطمعا في الحماية الغربية، فإن الغرب قد تجاهل كل مخاوف موسكو وجعل من الدفاع عن أوكرانيا ليس فقط قضية أخلاقية وقضية تتعلق بالدفاع عن الديمقراطية والسيادة، ولكن أيضا قضية تتصل بدعم القانون والشرعية الدولية وفقًا لميثاق الأمم المتحدة وتجاهل مبدأ حق الدول في الدفاع الشرعي عن نفسها.

وبالنظر إلى أن الأهداف الغربية تتصل بالسعي إلى توريط روسيا واستنزافها في مستنقع الحرب، والامتداد بأرض الناتو إلى أبواب موسكو والحيلولة دون نهوض روسيا واستعادة نفوذها وقدراتها، فإن الغرب انتقل من حديث الشعارات إلى العمل غير الودي، بل والعدائي ضد موسكو، وذلك بفرض حزم متتالية من العقوبات، ومحاولة عزل روسيا اقتصاديًا وعرقلة صادراتها من النفط والغاز، وصولًا إلى إمداد أوكرانيا بكل أنواع المساعدات المالية والاستخباراتية وبمختلف أنواع الأسلحة بدءا من الأسلحة الدفاعية وحتى الأسلحة الأكثر تطورًا وتأثيرًا والتي لم تستخدم حتى من جانب ألمانيا حسب قول المستشار الألماني ذاته.

وقد وجد الموقف الأمريكي ضد روسيا صدى كبيرا في أوروبا لأسباب جيوستراتيجية تاريخية وراهنة وهو ما دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى السير كالقطيع وراء واشنطن، خاصة فيما يتصل بفرض العقوبات على موسكو والحد من الاعتماد على النفط والغاز الروسيين برغم الحاجة الأوروبية الكبيرة والدائمة لهما وصعوبة تعويضهما عمليا بشكل كفء وسريع. والآن فإن أوروبا وخاصة ألمانيا تصرخ بسبب تقليل روسيا لكميات الغاز المتدفقة إلى أوروبا وهو ما يمكن أن يزيد من الضغوط الاقتصادية والاجتماعية على دول الاتحاد الأوروبي وعلى أمريكا ذاتها خلال الأشهر القادمة.

ثالثا: إنه مع ظهور دعوات متزايدة للتخلي عن العقوبات ضد روسيا والحد من المساعدات الغربية لأوكرانيا، فإن اتهام موسكو بأنها تستخدم النفط والغاز كورقة سياسية ضد أوروبا يفقد معناه في مقابل إمداد الغرب لأوكرانيا بالسلاح ومختلف أنواع المساعدات، ويحد ذلك من قيمة المبررات والادعاءات التي يقول بها هذا الجانب أو ذاك ويضع النزاع على أرضية صراع المصالح بعيدا عن أي ادعاءات أخلاقية، والاعتراف بذلك هو خطوة ضرورية للسير نحو تقديم تنازلات متبادلة قد تقود إلى التوصل لاتفاق لوقف القتال خاصة أن استمرار الحرب يضر بمصالح الكثير من الدول والشعوب ومنها الدول الغربية وليس روسيا وأوكرانيا فقط.

وقد ظهرت بعض المؤشرات في هذا الاتجاه داخل الغرب وروسيا أيضا، والأشهر القادمة ستكون مهمة ومؤثرة في ذلك إلى حد كبير خاصة فيما يتصل بالتمايز النسبي في المصالح بين أمريكا والاتحاد الأوروبي، ومخاطر الانسياق الجماعي وراء سياسات لا تتم دراستها جيدا.