أوروبا أمام التحدي الدفاعي مرة أخرى !!

21 مارس 2022
21 مارس 2022

لا تشكل الحرب الروسية الأوكرانية مشكلة لروسيا ولا لأوكرانيا فقط، ولكنها تشكل مشكلة للسلم وللأمن الدوليين وللاستقرار في العالم بوجه عام وفي أوروبا بوجه خاص، وذلك بالنظر إلى أن الحريق الروسي الأوكراني هو حريق في طرف الثوب الأوروبي، وهو حريق يدرك الأوروبيون بعمق أنهم لا يستطيعون إطفاءه بمفردهم، فضلا عن أنهم لا يملكون القدرة ولا الإمكانيات اللازمة ولا الكافية لمواجهته والتغلب على تهديداته بمفردهم. ولم تكن أحداث تفكك يوغوسلافيا السابقة وحرب كوسوفو، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، سوى سابقة لا ينساها الأوروبيون. وفي ضوء ذلك فإنه لم يكن مصادفة على أي نحو أن يظهر ما يمكن تسميته "بالصحوة الأوروبية " أو ما سماه الفرنسيون " اليقظة الأوروبية "وهي الشعار الذي أطلقه الأليزيه على قمة فرساي لقادة الاتحاد الأوروبي التي استضافتها فرنسا يومي 10 و11 مارس الجاري، والتي ناقش فيها قادة الاتحاد قضايا الاستقلالية الدفاعية والطاقة في ضوء التطورات الجارية في أوكرانيا..

وفي هذا الإطار يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا: برغم أن واشنطن هي التي صممت ونفذت مشروع مارشال عام 1947 للنهوض بأوروبا الغربية بعد محنة الحرب العالمية الثانية، وأنها هي التي بادرت بإنشاء حلف شمال الأطلنطي عام 1949 لحمايتها وللوقوف ضد تمدد الاتحاد السوفييتي السابق في شرق أوروبا، إلا أن أوروبا الغربية، بقيادة فرنسا والمانيا شهدت مع أوائل خمسينيات القرن الماضي دعوات متزايدة للتكامل الأوروبي، أي لزيادة التقارب بين دول أوروبا الغربية ولبلورة قدرة أوروبية إلى جانب الولايات المتحدة في إطار حلف الأطلنطي، ليس بهدف الاستقلال أو الابتعاد عن واشنطن، ولكن رغبة في الشعور بالكينونة الأوروبية بشكل أو بآخر.

ومع تطور القدرات النووية البريطانية والفرنسية، وزيادة القدرة الاقتصادية والتكنولوجية الألمانية، تحولت ألمانيا إلى ثاني أكبر ممول لحلف الأطلنطي بعد الولايات المتحدة، وأصرت فرنسا - ولا تزال - على الاحتفاظ بقدراتها النووية تحت سيطرتها المباشرة وليس تحت سيطرة حلف الأطلنطي، برغم أهداف الحلف ووظائفه، وبرغم أن المظلة النووية الأمريكية هي التي تحمي أوروبا الغربية في مواجهة تهديدات موسكو حتى الآن، إلا أن ذلك لم يحل دون استمرار الدعوة في أوساط أوروبية مختلفة للعمل على تحقيق قدر أكبر من الاستقلالية الدفاعية الأوروبية، أو على الأقل السير بخطى ما نحو توثيق العلاقات الدفاعية الثنائية بشكل أساسي بين فرنسا وألمانيا، وبالفعل تم اتخاذ عدة خطوات، وإن كانت محدودة أو رمزية إلى حد كبير على صعيد التنسيق الدفاعي بين فرنسا وألمانيا، منها على سبيل المثال إنشاء الفيلق الأوروبي، كقوة رمزية مشتركة ومتواضعة بين البلدين. غير أن أحداث التسعينيات، ونقصد بها تفكك الاتحاد السوفييتي السابق، والحرب الأيرلندية، والحرب في يوغوسلافيا السابقة وتفككها، وتفكك حلف وارسو السابق، وما أعقبها من تطورات وتهديدات مباشرة وغير مباشرة، خاصة أحداث الحرب في الشيشان والحرب الروسية ضد جورجيا وضم موسكو لشبه جزيرة القرم التابعة لأوكرانيا عام 2014، أعطى دفعة ملموسة للدعوة وللرغبة الأوروبية في بناء قدرة دفاعية واستقلالية ولو نسبية بالطبع.

ثانيا: انه برغم التطلع الفرنسي والميل الألماني بشكل ما إلى بناء قدرة دفاعية أوروبية مستقلة، إلا انه ظهرت خلافات، أو على الأقل عدم تطابق في وجهات النظر بين بون وباريس حول مدى الاستقلالية الأوروبية المنشودة، فباريس تريد السير خطوات عملية وذات معنى، خاصة وأنها تحتفظ بإشرافها الذاتي على قدراتها النووية برغم عضويتها في الناتو وعودتها للمشاركة في القيادة العسكرية له، بعد انسحابها منها لعدة سنوات، أما ألمانيا فإنها أكثر تحفظا في هذا المجال، سواء بحكم الضعف النسبي لقدراتها العسكرية، رغم قوتها الاقتصادية الكبيرة، أو بحكم تواجد عدة قواعد عسكرية أمريكية وعشرات الآلاف من الجنود الأمريكيين على أراضيها، إلى جانب قواعد حلف الأطلنطي، ومع ذلك حافظت باريس وبرلين على افضل العلاقات الممكنة بينهما وعلى الرغبة المشتركة في دعم الدفاع الأوروبي وتحقيق قدر اكبر منه كلما كان ذلك ممكنا. وبالفعل وافق الاتحاد الأوروبي في ديسمبر 2016 على النظر في إنشاء مركز تخطيط تشغيلي استراتيجي تمهيدا لتشكيل جيش أوروبي مشترك. وفي نوفمبر 2017 وقع وزراء خارجية الاتحاد - عدا بريطانيا ومالطا، على اتفاقية التعاون الهيكلي الدائم بشأن الشؤون الدفاعية وإنتاج المعدات العسكرية وتطوير القدرات الدفاعية.. وفي مارس 2018 وافق الاتحاد الأوروبي على إنشاء " مركز قيادة للعمليات العسكرية الأجنبية " لدعم القدرة على العمل والتخطيط العسكري للاتحاد. وفي فبراير 2021 قدمت المفوضية الأوروبية خطة عمل للتنسيق بين الصناعات المدنية والعسكرية والفضائية الأوروبية، واقترحت تخصيص مليار دولار سنويا على مدى سبع سنوات لتمويل صندوق الدفاع الأوروبي.

ورغم أهمية هذه الخطوات، إلا أن هدف تحقيق دفاع أوروبي مشترك اكثر استقلالية ظل يسير بخطى بطيئة إلى حد كبير، ولعل ما ساهم في حدوث ذلك أن دول أوروبا الغربية تحديدا لا تشعر بتهديدات من داخلها من ناحية، وان اعتمادها على حماية حلف الأطلنطي وأمريكا يظل أساسيا في مواجهة أية تهديدات من ناحية ثانية، وان أية خطوات دفاعية أوروبية مشتركة لن تكون ولن تستطيع - حتى في المدى المتوسط - أن تحل محل الناتو في توفير الحماية لأوروبا من ناحية ثالثة..

ويزداد الأمر صعوبة مع اتساع عضوية الاتحاد الأوروبي بانضمام عدة دول أوروبية شرقية ورغبة عدد آخر منها، بما في ذلك أوكرانيا، في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تلمسا لقدر ما من الحماية بانضمامها إلى عضويته.

ثالثا: انه يمكن النظر إلى الصحوة أو اليقظة الأوروبية الحالية للسعي إلى الاستقلال الدفاعي على أنها يقظة تكتيكية، أو ظرفية، وأنها لا تعدو أن تكون استمرارا لمسار الألف ميل الأوروبي الذي تم قطع خطوات محدودة عليه، ولعل ما يعزز هذا التصور أن الصحوة الدفاعية الأوروبية هذه ترتبط في الواقع بثلاثة عوامل، أولها اهتزاز الثقة الأوروبية في التزام حلف الأطلنطي وواشنطن بالدفاع عن أوروبا، رغم أن ذلك مصلحة استراتيجية أمريكية، وقد أدت سياسات وتصريحات الرئيس الأمريكي السابق ترامب إلى زيادة فجوة الثقة بين ضفتي الأطلنطي، ولم تخفف تصريحات ومواقف بايدن كثيرا من حجم هذه الفجوة، ومما له دلالة في هذا المجال أن الرئيس الفرنسي وصف حلف الناتو خلال قمة لندن في ديسمبر عام 2019 بأنه في حالة " موت دماغي "، أما العامل الثاني فإنه يتمثل في الوصول إلى توافق فرنسي ألماني حول مفهوم الاستقلال الدفاعي الأوروبي بما يعني الاستقلالية في إطار الناتو، ولا يعني ذلك الانفصال عن الناتو، ولكنه يعني القدرة على العمل الأوروبي المستقل في حالة الضرورة. وقد أشار ماكرون بعد محادثات مع المستشارة الألمانية ميركل في منتصف يونيو 2021 إلى أنه " نجحنا في زرع فكرة أن الدفاع الأوروبي والاستقلال الدفاعي الإستراتيجي يمكن أن يكون مشروعا بديلا للمنظمة عبر الأطلنطي، لكنه في نفس الوقت مكون قوي جدا في هذا الأمر." وكان رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال قد أشار في 26 فبراير 2021 خلال مؤتمر لقادة الاتحاد الأوروبي حضره أمين عام الناتو إلى أن " التكامل هو الحل " وأضاف: " نريد تعزيز قوة الاتحاد الأوروبي للتحرك بشكل مستقل مع الرغبة بأن نكون شريكا موثوقا فيه لحلف الأطلنطي والولايات المتحدة". ثم جاء الغزو الروسي لأوكرانيا ليشكل صدمة للاتحاد الأوروبي، بغض النظر عن أية ملابسات حول ظروف بدء الحرب، فقد شعرت دول الاتحاد بالانكشاف أكثر أمام القوة والجرأة الروسية. وهذا ما يفسر قرار برلين بتخصيص مائة مليار يورو لتعزيز قدراتها العسكرية والبدء فورا في التنفيذ، وكذلك قرار قادة دول الاتحاد بزيادة مخصصات الدفاع لتصل إلى 2 % من الناتج المحلي لها، وإظهار قدر من التماسك فيما بينها وفي دعمها لأوكرانيا وفرضها عقوبات ضد موسكو. وبرغم كل ذلك وأهميته، إلا إن عقبات عديدة تجعل من تحقيق الدفاع الأوروبي المستقل هدفا طويل الأمد، خاصة وأن الحماسة له ستفتر بالضرورة، مع وقف الحرب في أوكرانيا والتوصل إلى تسوية مع روسيا. والى جانب ذلك فإنه من المعروف أن واشنطن ودول أوروبا الشرقية لا تتحمس كثيرا لهذا المشروع لأسباب مختلفة في الحالتين، وهو ما يمكن تناوله فيما بعد.