أزمة القمح.. والحاجة لحلول فعالة !!
في الوقت الذي تتجه فيه الحرب الروسية ضد أوكرانيا نحو مزيد من التصعيد وإمكانية الاستمرار، ربما لأسابيع عديدة، وذلك في ضوء تركيز روسيا على إقليم دونباس، وضرب أوكرانيا للطراد الروسي موسكوفا أضخم سفن البحرية الروسية وإغراقه، وقيام واشنطن ودول غربية أخرى بتزويد أوكرانيا بأسلحة ثقيلة وذات قدرات هجومية، فإن آثار الحرب التي بدأت في 24 فبراير الماضي سرعان ما تجاوزت حدود طرفيها الرئيسيين، لتمتد إلى دوائر واسعة في مناطق العالم المختلفة، ومن أهم هذه الآثار على الصعيد الاقتصادي أزمة القمح التي تثير مخاوف دول كثيرة، بما فيها دول المنطقة العربية وإفريقيا والدول المماثلة لها التي تعتمد على واردات القمح والحبوب والزيوت النباتية من الخارج لسد جزء كبير من احتياجات شعوبها الغذائية.
ويمكن الإشارة إلى بعض الجوانب لإيضاح أبرز جوانب هذه الأزمة في ما يلي:
أولا: من المعروف على نطاق واسع أن القمح والذرة والزيوت النباتية ليست مجرد سلع غذائية تتوفر في الأسواق ويمكن الحصول عليها متى توفرت الأموال اللازمة لشرائها، ولكنها في الواقع ومنذ القدم، سلع غذائية استراتيجية، كثيرا ما تحولت إلى أسلحة للضغط على الخصوم في كثير من حالات الصراع والحروب، أو لحمل طرف أو أطراف معينة للاستجابة لمواقف أو لشروط تريدها الأطراف المالكة أو القادرة على التحكم في إمدادات الغذاء للأطراف المستهدفة، والأمثلة في هذا المجال متنوعة وأكثر من أن تحصى. وأضيف إلى ذلك ما أفرزته الأزمات الاقتصادية والاضطرابات العالمية مؤخرا من تأثر شديد بالنسبة لسلاسل الإمداد العالمية للكثير من السلع والمنتجات، سواء بفعل الحروب والصراعات، أو بفعل المشكلات الصحية والسياسية وتأثيرها على حركة النقل بين الدول، خاصة في ظل اتساع واستقرار حالات الاعتماد المتبادل بين الدول في ظل العولمة، وقد أدى ذلك إلى اهتمام الكثير من الدول بمفهوم الأمن الغذائي والعمل على محاولة ضمان تأمين احتياجات شعوبها من الغذاء بوجه عام ومن السلع الغذائية الرئيسية بوجه خاص، سواء بتوفير سبل ووسائل الإنتاج المحلي لها أو لمعظمها، أو بتأمين شبكة علاقات تحقق لها الحصول على احتياجاتها من هذه السلع أو أغلبها في الظروف المختلفة، ولم يعد الأمر مقتصرا على النفط وإمدادات الوقود، ولكنه امتد إلى السلع الغذائية الاستراتيجية حتى لا تتعرض الشعوب إلى حالات من أزمة الغذاء قد تصل إلى حد المجاعة، إذا تدخلت عوامل أخرى -جفاف أو تصحر أو فيضانات أو تقلبات مناخية حادة- في هذه المشكلة وزادت من حدتها. وذلك هو ما تخشاه الكثير من الدول في المنطقة العربية وخارجها بعد نشوب الحرب في أوكرانيا واستمرارها واحتمالات استمرارها لبعض الوقت في ظل المعطيات الراهنة والمنظورة.
ثانيا: إنه من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن حجم تجارة القمح العالمية يصل إلى نحو 270 مليون طن سنويا، منها نحو 17% من روسيا، و12% من أوكرانيا، وهما من بين أكبر خمس دول مصدرة للقمح في العالم، وتصل قيمة التجارة الزراعية -القمح وغيره من المنتجات الزراعية والزيوت النباتية- مع روسيا وأوكرانيا إلى نحو 1.8 تريليون دولار سنويا حسبما ذكرت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة -الفاو- وتصدر روسيا وأوكرانيا نحو 25% من صادرات القمح العالمية. وقد تسببت الحرب في أوكرانيا في ارتفاع مؤشر أسعار السلع الغذائية لدى «الفاو» بنسبة 12.6% في شهري فبراير ومارس الماضيين، كما ارتفع مؤشر الحبوب بنسبة 17.1%، وقد زاد سعر طن القمح في الأسواق العالمية من نحو 350 دولارا إلى نحو 480 دولارا.
ووفقا للبيانات الروسية فقد ارتفعت صادرات روسيا من المنتجات الزراعية من 30.5 مليار دولار عام 2020 إلى 37.7 مليار دولار العام الماضي، وهو ما يتجاوز صادرات روسيا من الأسلحة بنسبة 150%، إذ إن متوسط صادراتها من الأسلحة سنويا يصل إلى نحو 13 مليار دولار.
وبالنسبة لأوكرانيا، وهي الأكثر تضررا من الحرب، فإن المساحة المزروعة بالحبوب ستنخفض هذا العام بسبب الحرب إلى نحو 7 ملايين هكتار، وهي أقل من نصف المساحة المزروعة بالحبوب سنويا، وحتى المتبقي من محصول العام الماضي من القمح والحبوب يصعب تصديره بسبب إغلاق الموانئ الأوكرانية على البحر الأسود، وتدمير قسم كبير من شبكة السكك الحديدية، هذا فضلا عن هجرة أكثر من خمسة ملايين من السكان لأراضيهم، وذكر وزير الزراعة الأوكراني «رومان ليشتشينكو» إن حجم الإنتاج يمكن أن ينخفض بنسبة تتراوح بين 30 و55% في الموسم القادم، وقد قالت صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية: إن «كارثة وشيكة تهدد العالم تتمثل في نقص المواد الغذائية الرئيسية» بعد تأثر صادرات القمح والحبوب من روسيا وأوكرانيا.
كما حذرت الأمم المتحدة من أن الحرب في أوكرانيا «تهدد بتدمير برنامج الغذاء العالمي لحوالي 125 مليون شخص على مستوى العالم».
وفي ضوء ذلك، ومع استمرار الحرب وتفاقم نتائجها تجد الكثير من الدول، التي تعتمد على استيراد القمح والذرة والمنتجات الغذائية الأخرى نفسها في موقف لا تحسد عليه، فحجم المعروض من القمح سيقل بالضرورة، وارتفعت الأسعار بالفعل بنحو 37% مقارنة بما كانت عليه قبل اندلاع الحرب، يضاف إلى ذلك إن محاولات بعض الدول زيادة مساحات الأراضي المزروعة بالقمح والحبوب لديها سيحتاج بعض الوقت -على الأقل ستة أشهر وهى مدة الموسم الزراعي- ليعطي مردوده الإيجابي الذي سيتوقف بالطبع على عوامل عدة تؤثر في حجم الإنتاج، وبالتالي ليس أمام تلك الدول سوى البحث عن مصادر بديلة لتعويض ما ستخسره من وارداتها من روسيا وأوكرانيا، وهو ما بدأت دول كثيرة في العمل والبحث عنه بوسائل متعددة.
ثالثا: إنه في الوقت الذي تؤثر فيه العقوبات الغربية المفروضة على روسيا على صادراتها من القمح والمنتجات الغذائية، وهو ما حاولت موسكو الرد عليه بقصر توريد المنتجات الغذائية والزراعية إلى «الدول الصديقة لروسيا»، حسبما أعلن ديمتري ميدفيديف نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي يوم 3 أبريل الجاري، «وهم ليسوا في أوروبا أو أمريكا الشمالية» على حد قوله، فإن أزمة القمح تلقي بأعبائها على الدول العربية باعتبارها من أكثر الدول اعتمادا على الخارج في سد احتياجاتها من القمح والمنتجات الغذائية الأخرى، وعلى سبيل المثال، تستورد لبنان 80% من القمح من أوكرانيا، وتستورد مصر نحو 60% من احتياجاتها من القمح والحبوب من الخارج.
ولأن اعتبارات الأمن الغذائي والمصالح الوطنية والقومية للدول العربية تفرض ضرورة العمل على المستويين الوطني والقومي لتحقيق أكبر قدر ممكن من التكامل الاقتصادي بين الدول العربية، وبما يسمح باستغلال الإمكانات العربية الزراعية المتوفرة بالفعل على المستوى العربي، من أراض صالحة للزراعة، وخاصة في السودان ومن مياه ومن قدرات ومهارات زراعية ومن أموال يمكن استثمارها، فإن العرب أمام لحظة فارقة، ليس فقط لخطورة أزمة القمح والحبوب، ولكن أيضا لقيمة وأهمية ما يمكن تحقيقه عمليا من تكامل بين الأشقاء على صعيد استثمار الموارد العربية المتاحة.
وإذا كانت هناك بالفعل العديد من الاتفاقيات والبرامج والخطط التي تم التوصل إليها بين الدول العربية بوجه عام وبين السودان ومصر ودول عربية أخرى على المستوى الثنائي والمتعدد الأطراف، قبل سنوات عدة، فلعل الأزمة تدفع كل الأطراف العربية إلى العمل الجاد والمخلص لتفعيل الاتفاقيات القائمة والتي قتلت بحثا عند إعدادها، أو على الأقل الانتقال منها والاستفادة بها للتوصل إلى اتفاقيات جديدة إذا أرادت الدول الشقيقة استثمار الإمكانات العربية الزراعية المتاحة، ولصالح كل الأشقاء بالطبع، والمؤكد أن الأمر لا يحتمل مماطلة ولا مناورة من أي نوع لأن المصالح مشتركة ومتبادلة، ولأن تضييع الوقت والفرص لا يفيد شعوبنا العربية، بل يكلفنا الكثير من الأموال فضلا عن التكلفة السياسية للاعتماد على الخارج بشكل كبير لسد احتياجاتنا من الغذاء. فهل نستغل الفرصة، أم أنها ستضيع كما حدث من قبل؟
د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري
