نوافذ: نظام التعليم في كندا

17 يوليو 2021
17 يوليو 2021

ختمتُ مقالي الأسبوع الماضي الذي عرضتُ فيه كتاب «مذكرات سال: عُمانية في أرض الهنود الحمر» بأن أكثر ما يُلفِت الانتباه في هذا الكتاب الصادر مؤخرا عن دار كنوز المعرفة هو حديث مؤلفته سلامة العوفي عن النظام التدريسي في الجامعات الكندية، الذي يفسِّر لماذا هي من أفضل الجامعات في العالم، ووعدتُ أن أفرد مقالًا خاصًا بهذا الموضوع، وها أنا أفعل.

ثمة أساتذة ينتهجون في التعليم بالجامعات الكندية ما تسميه الكاتبة «الأسلوب الحداثي»، ويرون - أي الأساتذة- «أن الطالب - لا المعلم - هو ربان رحلة التعلم، وبأنه وحده الذي يستطيع قيادة دفة تعلمه نحو الجهة التي تلائم ميوله واتجاهاته وقدراته». لذا، فإن البروفيسور الأمريكي روس يطلب من سلامة وزملائها أن يحددوا مسار المنهج بناء على رغباتهم وطريقة تعاطيهم مع الأفكار العامة التي يرتكز عليها المقرر، وأن يكتب كل طالب تقريرًا في نهاية الفصل يحدد فيه الدرجة التي يستحقها بناء على ما أنجزه خلال الفصل. لنتخيّل هذا؛ الطالب هو الذي يحدد درجته المستحقة لا الأستاذ!. أما الدكتورة بارتوش - أوكرانية الأصل- فتطلب من طلابها اختيار مكان عام أو خاص، ليراقبوا فيه مجموعة محددة من الناس، يستمعون إلى أحاديثهم، ويتتبّعون تصرفاتهم، ويشاهدون إيماءاتهم وتعابير وجوههم، ويسجلون تفاعلهم مع بعضهم البعض، ومع المحيط حولهم، ثم يكتب كلٌّ منهم تقريرًا بحثيًّا عن ذلك في 3500 كلمة. إنها طريقة تربي الطالب على الفهم لا الحفظ، وتنمي ملكتَيْ النقد والملاحظة لديه. وكان لافتًا إصرار الكاتبة على تطبيق هذا المنهج التعليمي الجديد عليها على بلدها عُمان، فقد اختارت سلامة لتلبية الفرض الدراسي للدكتورة بارتوش أن تراقب سلوك نسوة عمانيات في المناسبات الاجتماعية في الغربة، انطلاقًا من زيارة قامت بها بصحبة زميلات عُمانيات لتهنئة امرأة عُمانية مقيمة في فانكوفر بمولود جديد، وفي فرض دراسي آخر تسرد لزملائها في تقرير بحثي حكاية تعاطي الجدات العُمانيات مع المعتقدات الخرافية في علاج الأمراض وحمى النفاس وسقوط الأجنة لتصل إلى خلاصة مفادها أن «التعليم النظامي كان - ولا يزال- من أعظم الإنجازات في كثير من البقاع في هذا العالم».

وإذا كانت مَلَكتا النقد والملاحظة هُما أهم ما في العملية التعليمية فإن هاتين المَلَكتين لا يكتسبهما الطالب في كندا في المرحلة الجامعية فقط، بل منذ الصفوف الابتدائية الأولى التي نجح واضعو السياسات التعليمية هناك في جعلها جاذبة للأطفال إلى حد أن العوفية تقول إن ابنتها - وهي القادمة من بيئة يشتهر تلاميذها بنفورهم من المدرسة وتذمرهم منها، وفرحتهم الشديدة بالإجازات، وبالمطر الذي سيمنعهم في يوم هطوله من الذهاب إليها- لم تتذمر هذه الطفلة يومًا -طوال سنتين في كندا- من الدراسة، «وكأنما يوم المدرسة ما هو إلا يوما آخر من المتعة»، وهذا ليس مستغربًا إذا كان نظام التعليم الكندي في الصفوف الدنيا قائم على ما تصفه سلامة «التعلم باللعب والاستكشاف، والتجربة الحقيقية، وبدون تكليف الطالب عبء الواجبات المنزلية، والامتحانات، والمناهج الدسمة لكل مادة»، ولذلك -تضيف سلامة- «تجد أن البيئة الصفية مهيّأة تماما لهذا النوع من التعلم. فالصف المدرسي عالم مدهش مليء بالألوان والكتب والمعاجم والملصقات والقصص وقطع الأثاث اللطيفة. وهو شاسع المساحة به بابان ونوافذ كبيرة لتدخل أكبر قدر ممكن من الضوء الطبيعي في مدينة رمادية ماطرة أغلب أيام السنة».

هذه الخبرات في التعليم التي خرجت بها سلامة العوفي المبتعثة خصيصًا لدراسة «تطوير المناهج» في واحدة من أرقى الدول في الأنظمة التعليمية في العالم، وهي طالبة واحدة، تجعل المرء يقف مع نفسه متأملًا: ماذا لو أن ثمة طلابًا آخرين ابتعثوا سنويًّا -وبخطة ممنهجة- لدراسة هذا الحقل الدراسي بالذات، ألن ينعكس هذا بشكل إيجابي على نظامنا التعليمي وتطوّره؟.