أجمل الذكريات أصدقها

22 أبريل 2024
22 أبريل 2024

تزداد كتابة السيرة كجنس أدبي في المنطقة العربية، إذ حظي باهتمام من القارئ خاصة السير التي تفيض بالتجارب الحياتية الباذخة بالمواقف الإنسانية الصادقة؛ فقراءة السير الذاتية تعرفنا على أشخاص خاضوا الحياة بعزائم قوية وإصرار على انتزاع اعتراف بوجودهم وقناعاتهم في محاولة لتحقيق أحلامهم بمستقبل أجمل لهم ولأوطانهم، فتواجههم العراقيل والتحديات ويواجهونها بعزائم فولاذية لا تلين رغم قسوة السلطات وسطوة الزمن وسياط الجلادين وخذلان الرفاق.

من كتب السيرة التي وقعت مؤخرا بين يدي ولم تترك لي فرصة التخلي عن صفحاتها كتاب «وأجمل الذكريات ستأتي حتما» للكاتبة المصرية نولة درويش، التي تُضاف سيرتها إلى قائمة أدب السيرة، ففي هذا الجنس الأدبي الذي انتزع الاعتراف به في الدراسات الأدبية في السنوات الأخيرة، يندر أن نجد سيرة للمرأة وبحثها عن حياتها وصراعها وصراحتها كما هو منشور في كتاب وأجمل الذكريات، إذ نقف على تحولات حياتية مرت بها الكاتبة في مرحلة زمنية متقلبة بالتحولات السياسية والأيديولوجية والفكرية أفضت بصاحبة السيرة إلى النشاط النسوي في المنطقة والدفاع عن حقوق المرأة في القوانين والتشريعات.

تُعرفنا الكاتبة نولة في كتابها على أبيها المناضل المصري الذي رافق رموز اليسار المصري في السجون والمضايقات، فوالدها يوسف درويش، تخلى عن ديانته اليهودية وأسلم من أجل الانتصار للفلاحين والعمال، وتجرع الألم في سبيل قناعاته، وتنقل بين سجون مصر على امتداد الحكومات المصرية من عهد الملكية، مرورا بالناصرية وعهد السادات، ولم تتوقف المضايقات في عهد مبارك. ولأن البنت ابنة أبيها فقد واصلت هي الأخرى نضالها في أكثر من صعيد ومنبر وجمعيات المجتمع المدني. تنقلت نولة بين عدة مدن ساهمت في بناء شخصيتها وتكوين علاقات إنسانية مع شخصيات تتذكرهم بكل ود ومحبة، ومن أهم المدن التي مرت بها: باريس والجزائر وبراغ وموسكو وتونس ومدينة البريقة بليبيا.

في كتابها المعنون بـ «وأجمل الذكريات ستأتي حتما» الواقع في 272 صفحة، والصادر مطلع هذا العام عن دار الكرمة للنشر، لم تتوانَ نولة عن وصف الأشخاص كما هم بدءا من نفسها وأخيها وزوجها الذي لم يدم زواجها به طويلا، وحتى بعض الأشخاص الذين تقاطعت أحداث حياتها معهم فكتبت بصدق عما حدث وحصل دون مجاملة أو تثريب؛ فمثلا ذكرت قصة الطبيب فريد وديع حداد ذي الأصول اللبنانية والمعروف بطبيب الغلابة، الذي استشهد تحت التعذيب في السجن الحربي في مارس 1959.

يجد القارئ الصدق والوضوح في كل عبارة وموقف ومرحلة خاصة الأشخاص الذين ألحقوا بها وبأسرتها الأذى، مثل المحاسب في جريدة الأخبار الذي وشى بيوسف درويش عن طريق العاملة المنزلية أم مصطفى، وكانت النتيجة أن تمت مداهمة بيتهم. كما عبرت عن امتنانها لشخصيات أعرفهم كأصدقاء أو التقيت بهم في مناسبات عدة، منهم الدكتورة والناقدة الأدبية شيرين أبو النجا، والدكتور عماد أبو غازي وزير الثقافة المصري الأسبق، وكذلك الشاعر أحمد فؤاد نجم. كما ذكرت مؤسسة كنت أعرفها عن قرب في تونس أو مركز المرأة العربية

للتدريب والبحوث (مركز كوثر) في تونس، إذ التقيت في إحدى مناسبات المركز بصاحب السمو الأمير طلال بن عبدالعزيز المموِل والداعم لأنشطة المركز، وفي تونس أيضا التقيت بأحمد فؤاد نجم. أما الدكتور عماد والدكتورة شيرين فقد تعرفت عليهما مؤخرا في القاهرة. والحقيقة أن الكاتبة نولة كتبت بصدق لافت عن هاتين الشخصيتين كما عرفتهما، وهما يستحقان الذكر والشكر.

وقد احتوى الكتاب على ثمانية موضوعات، هي: (سنوات الطفولة : 1949-1958، نهاية الطفولة:1959-1964، وسنوات المراهقة وبدايات النضج:1965-1975، والحياة في مصر -الزواج والإنجاب والطلاق وقصص أخرى:1975-1982، وسنوات تغيير المسار المهني والنضالي وبعض شهور الغربة:1984-1994، وسنوات العمل المهني والعام المُكثف: 1995-2005، وسنوات الهموم الشخصية واختمار الغضب العام:2005-2010، سنوات تصاعد الغضب وتفشي الأمراض العامة والخاصة)، تلا ذلك عدة ملاحق للكتاب وأربعة مقالات للمؤلفة، وميثاق أخلاقيات العمل ومدونة السلوك لمؤسسة المرأة الجديدة.

أما عنوان الكتاب فمأخوذ من قصيدة الشاعر التركي ناظم حكمت ( 1902-1963)، حيث يقول:

«أجمل الأيام

تلك التي لم نعشها بعد

أجمل البحار

تلك التي لم نبحر بها بعد

أجمل الأطفال

هم الذين لم يولدوا بعد

أجمل الزهور

تلك التي لم تتفتح بعد

أجمل الكلمات

تلك التي لم أقلها بعد

أجمل القصائد

تلك التي لم أكتبها بعد

وأجمل ما أريد قوله لك

ما لم أقله بعد

وأجمل الذكريات ستأتي حتما»