نوافذ :«ظلها على الجدار»

22 مارس 2023
22 مارس 2023

أهدتني الدكتورة منى حبراس نسخة من إصدارها الأخير المعنون بـ «ظل يسقط على الجدار»، وفي إهدائها كتبت «سيسعدني أن يعجبك سطر واحد على الأقل»، وهذا الإهداء دلالة تواضع من قبل الكاتبة، وهو من سماتها التي لا تنكر.

الكتاب مصنف كـ «نصوص»، دون أن تذهب الكاتبة إلى ما هو أبعد من ذلك، فهذه مجموعة نصوص، ليست قصصا قصيرة وليست مقالات، ليست رواية وليست سيرة وإن مالت إليها، بل هي كتابة منسابة، تحتال على التصنيف وتنفتح على الذاكرة، والذاكرة كما نعرف انتقائية، لئيمة وخطرة.

لا تخفي الكاتبة ذلك بل أنها تحذّر القارئ منذ البداية «الذاكرة حقل ألغام!» وتردف: «فاحترس وأنت تقلّب محتويات هذا الصندوق»، هو صندوق باندورا إذًا، وقد تخرج منه كل الشرور؛ الغيرة والحسد والغرور والجشع والوقاحة، وأيضا قد تخرج منه لطائف النفس وحكمتها المخبأة.

الذاكرة كما نعرف حقل ألغام أيضا، سينفجر في وجهك إن أنت أخطأت التأويل، بيد أن الكاتبة تخلي نفسها من المسؤولية، تتركك وحيدا في المواجهة، دون أن تقول لك إنك ستتورط في نصوصها، وستتماهى معها، فلا تعود تعرف أين يقف سردها وأين تبدأ ذاكرتك في لعبة الاستدراج ووهمية التماثل.

في نصها الأول «الفتاة في المرآة»، تتعرّف الطفلة إلى المرآة وتكتشف متعة أن تكلم نفسها، إلا أنها تتوق لانفصال الصورة عنها، أن تكونا ذاتا مقابل أخرى، أن يكون هناك بمعنى ما متفرج، يتلقى الفعل ويتفاعل معه ويؤوله، لكن استحالة ذلك أمام المرآة حيث الصورة هي أنت وليس الآخر، علمتها واحدًا من أهم دروس الحياة والكتابة في ظني «علمتني المرآة أن المتلقي الأول ليس شخصًا غيري، وأن الحكم على أفعالي وأقوالي يبدأ من عرضها علي أولًا، ومن ثم فأهلا بأحكام الآخرين».

شرط أخلاقي يأتي في هيئة نص تستخدمه كتوطئة لما سيأتي، فالكاتبة لا يهمها كثيرا أن تتوافق قناعاتها مع قناعتك، تقول بطريقة ما إنها غير مهتمة في الحقيقة بأن ترضي الآخر/ القارئ، بقدر اهتمامها بأن تكون صادقة مع نفسها، وغير مهتمة أيضا بأن تعارضك أو تستفزك، ذلك ليس في قائمة أهدافها بالتأكيد، إذ تخضع كل شيء لمقياسها الذاتي، دون أن تحمل عبء صليبها، أو ردود الفعل.

هي مرجعها الأول، وهذا ما يعطي للغيمة اكتنازها عندما تنظر لعبور طيفها على صفحة الماء، وهذا ما يمنحها حرية اختيار السهل الذي ستهطل عليه.

هي الغيمة الحرة، التي أين ما أمطرت ربت الأرض وأزهرت، وهي تعرف ذلك، لكنها لا تصرخ به بل تسربه من خلال الفتاة في المرآة، وهذا يعجبني، يعجبني جدا يا منى.