نوافذ: صوتٌ من الزمن الجميل

20 نوفمبر 2021
20 نوفمبر 2021

لماذا كلما تقدم بنا العمر نحِنّ للزمن الماضي، مهما كابدنا فيه من تعب ومشقة؟ هل صحيح أن الماضي دائمًا أجمل وأن الحاضر سيئ إلى أن يصبح ماضيًا؟ هل الزمن هو الذي يتغيّر بنا أم نحن الذين نتغيّر وننتبه إلى أن ما كنّا نعيشه ذات سَنة بعيدة؛ كان سعادةً لم ننتبه لها في حينها؟

هذه التساؤلات دارت في ذهني منذ نحو أسبوعين، عندما انتشر على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي فيديو قصير مدته دقيقة واحدة للفنان العُماني المعتزل منذ أكثر من ربع قرن أحمد الحارثي وهو يدندن أغنيته الوطنية الشهيرة «بلادي تغنى بها الملهمون» (كلمات الشاعرة سعيدة خاطر وألحان الفنان اليمني أحمد فتحي)، مفجرًا لأمثالي ممن كان هذا الفنان المعبّرَ الفنيَّ عن جيلهم حنينًا جارفا، ليس فقط للحارثي، وإنما للزمن الذي عشناه معه، والذي ننظر إليه اليوم كفردوس مفقود. أشبّه الأمر برمّته، بتلك الوردة التي عثر عليها نجيب محفوظ في سنين عمره الأخيرة وراء صف من الكتب أثناء إعادته ترتيب مكتبته. ليس لأنها كانت جافة ومبعثرة الأوراق (وحاشا للحارثي أن يشبهها من هذه الناحية) بل لأن محفوظ- فرِح بها إلى درجة أنه كتب عنها في «أصداء السيرة الذاتية» تعبيرًا صالحًا لاستعارته في فرحتنا بالفنان العائد وإطلالته المؤقتة: «ابتسمتُ، انحسرتْ غيابات الماضي السحيق عن نور عابر، وأفلتَ من قبضة الزمن حنينٌ عاش خمس دقائق، وندَّ عن الأوراق الجافة عبيرٌ كالهمس».

يبدأ الفيديو المذكور بدندنة أحمد الحارثي الوقور بلحيته البيضاء، للأغنية بصوته فقط، ثم يتبعها مقطع من الأغنية نفسها بلحنها الموسيقي، ليذكرنا أن هذه الأغنية -ورغم مرور كل هذه السنين عليها، إذْ أنها من إنتاج عام 1988- ما زالت تتردد دائمًا في مناسباتنا الوطنية غير عابئة بظهور مطربها أو اختفائه، وكأنها انفصلت عنه وصارت لوحدها كيانًا مستقلًّا، كأي عمل فني أصيل. لكن صوت الحارثي في الفيديو، المنفرد بلا أية آلات موسيقية، المؤدَّى بإحساس، المستغني عن أية مؤثرات، كان هو البطل في هذه الذكرى، ليس فقط لأنه يخبرنا أنه مازال صوتًا جميلًا، واضح النبرة، صافيًا، لم يسلب الزمن شيئًا من نضارته، بل أيضًا لأنه مثّل هو نفسه (أي الصوت) موسيقى من نوع خاص، من تلك النوعية من الموسيقى التي توقظ الزمن وتضفي على جريانه معنى وقيمة كما يقول الأديب توماس مان على لسان إحدى شخصيات «الجبل السحري»، إنها موسيقى «توقظنا إلى أرهف استمتاع بالزمن».

لستُ هنا في وارد مساءلة الفنان عن أسباب اعتزاله، ولا مطالبته بالعودة إلى الغناء، فهذه حريته الشخصية التي أحترمها، بل وأطالب الجميع باحترامها، لكني فقط أردتُ أن أهنئه على بقائه في ذاكرتنا كل هذه السنين، وهو شرف لا يمكن أن يناله إلا فنان محترم عرف كيف يختار أغانيه وألحانها، وأتقن أداءها بإحساس مرهف وصادق. وأنا لا أتحدث فقط عن هذه الأغنية التي دندنها الحارثي في القناة اليوتيوبية لزميلنا الإعلامي سعيد الشنفري، وإنما عن أغانٍ أخرى له ما زالت تتردد على أسماعنا إلى اليوم؛ وطنيةً كانت كـ «فخر الرجال»، و«سلطاننا قابوس»، و«يا رب يا رحمن»، أو عاطفية كـ«إلى متى»، و«حبيبة قلبي»، و«قلت له»، أو حتى أغنية مناسبات كـ«عيد سعيد» التي صارت جزءا من ذاكرة احتفالنا بعيدَيْ الفطر والأضحى.

ولَعمْري، إن أجمل تكريم للفنان، أي فنّان، هو أن يبقى في ذاكرة جمهوره حتى بعد ربع قرن من الغياب.