نوافذ: الإعلام الغربي.. الوجه القبيح

21 أكتوبر 2023
21 أكتوبر 2023

لأن المنحة تأتي من قلب المحنة فإن واحدة من مِنَح ما يجري الآن في غزة من عدوان إسرائيلي غاشم على البشر والحجر أنها كشفت عن الوجه القبيح للإعلام الغربي الذي يتشدق ليل نهار بالصحافة المهنية وحرية الإعلام والتعبير، بل ويشهرها فزّاعة في وجه كل من يختلف مع معاييره في تناول الأحداث السياسية والنظر إليها، لكن هذا الإعلام؛ صحفًا وقنواتٍ إخبارية، ووسائل تواصل اجتماعي، ومؤسسات إعلامية عديدة، يتردى -منذ السابع من أكتوبر الجاري وحتى اليوم- من سقوط مهني إلى آخر، وهو ما سيوفّر للباحثين وأساتذة الإعلام في المستقبل مادة ثرية للدراسة والتحليل.

رأينا في البداية كيف أن الإعلام الغربي كله تقريبًا تواطَأ على تسمية العدوان الإسرائيلي «حرب إسرائيل على حَمَاس»، وليس على فلسطين كما هي الحقيقة، ليُوحي بأنها حربٌ على فصيل واحد فقط من فصائل الفلسطينيين، وهو الفصيل الذي لا دِية له في الغرب لكونه ظل لسنوات عديدة مصنّفًا فصيلًا إرهابيًّا. ولتعزيز هذه الصورة حرص هذا الإعلام الغربي على نقل أي خبر يدين حماس حتى وإن كان كاذبًا، كما هي حال كذبة قطع مقاتليها رؤوس أربعين طفلًا إسرائيليا، الذي تناقلته كبريات وسائل الإعلام العالمية عن قناة إسرائيلية دون أن تكلف نفسها التثبت منه، فكتبت صحيفة «ذا صن» البريطانية في صدر صفحتها الأولى: «المتوحشون يقطعون رؤوس الأطفال في مذبحة»، وقالت «التايمز»: «لقد قطعت حماس حناجر الأطفال في مذبحة»! وغيرها الكثير من الصحف التي نقلت الكذبة على أنها حقيقة مؤكدة، بل إن الرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه استشهد بها في أحد لقاءاته الصحفية!

وقد شاهدنا كيف أن السؤال الأول لكل ضيف فلسطيني أو عربي أرادت بعض القنوات المنحازة للرواية الإسرائيلية أن تخفي من خلال استضافته انحيازها الفاضح وتذرّ بعض الرماد على العيون بادعاء أنها تقدم الرأي الآخر، هو: «هل تدين ما ارتكبته حماس من قتل للمدنيين؟»، وقد أبلى في الإجابة عن هذا السؤال بلاء حسنًا أكثر من ضيف عربي، منهم حسام زملط رئيس البعثة الفلسطينية في بريطانيا، الذي قال لمضيفته كريستيان أمانبور مذيعة الــ«سي إن إن»: إن هذا السؤال لا يمثل جوهر القضية، مستنكرًا تعامي ما يسمى «المجتمع الدولي» والإعلام الغربي عن مجازر إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وقبلها قال لمذيعة الــ«بي بي سي»: إن المتحدثين الفلسطينيين لا يُستدعَون في الإعلام الغربي إلا حين يموت إسرائيليون، أما حين يُقتَل الفلسطينيون بالمئات بدم بارد فإن هذا الإعلام لا يبدي أي اكتراث. ومن الذين أبلوا بلاء حسنًا أيضًا الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف الذي قلب الطاولة على مضيفه المذيع البريطاني بيرس مورجان بإجاباته الساخرة على أسئلته المعلبة في برنامجه «Piers Uncensored»، وقد استطاع يوسف بسخريته اللاذعة من كل «كليشيهات» الإعلام الغربي التي واجهه بها مضيفه أن يقدم للمشاهد الغربي رواية جديدة للقضية الفلسطينية لم يعتدها من قبل، الأمر الذي انعكس على الإقبال الشديد على المقابلة حتى صارت الأكثر مشاهدة في تاريخ هذا البرنامج بخمسة عشر مليون مشاهدة حتى كتابة هذه السطور.

رأينا أيضًا كيف وصلت قناة «بي بي سي» البريطانية إلى قاع الحضيض المهني، ليس فقط باستخدامها الفعل «ماتوا» للإشارة إلى من قتلتهم إسرائيل في غزة، مقابل الفعل «قُتِلوا» في وصف القتلى الإسرائيليين، ولكن أيضًا بتمهيدها لقصف إسرائيل لمستشفى المعمداني في غزة عندما نشرت قبل القصف بيوم عبر منصاتها المختلفة تقريرًا لمراسلتها ليز دوسيه يزعم -دون أي أدلة- أنه من المحتمل أن يكون لدى حماس أنفاق تحت المباني المدنية مثل المدارس والمستشفيات والمناطق السكنية، الأمر الذي جعل كثيرين يتهمونها «بالانحياز وعدم المصداقية وتزييف الحقائق»، بل إن البعض ذهب إلى أبعد من ذلك فاتهمها بأن أياديها ملطخة بدماء الأبرياء من شهداء ذلك المستشفى وكثير منهم من الأطفال.

كل هذه الانتكاسات في مهنية البي بي سي أدت إلى استقالة جماعية لطاقم مراسليها في فلسطين الذين بلغ عددهم اثني عشر إعلاميا، وكان بسام بونني مراسل القناة لشؤون شمال أفريقيا قد سبق هؤلاء بالاستقالة قبل عدة أيام.

صحيفة الجارديان البريطانية بدورها أقالت رسام الكاريكاتير ستيف بيل الذي عمل لديها أكثر من أربعين عامًا، فقط لأنه تجرأ فرسم كاريكاتيرًا يصوّر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو مرتديًا قفازَيْ ملاكمة ويقطع بمشرط خريطة تمثل قطاع غزة، مع تعليق على الرسم يقول: «يا سكان غزة، اخرجوا الآن»، وفي تبرير ما فعلتْ؛ ألصقت الجارديان برسامها التهمة الجاهزة لكل من ينتقد إسرائيل أو الصهاينة: «معاداة السامية»!

أما فيسبوك فالمعروف أن سياسته لمحاربة أي محتوى متعاطف مع القضية الفلسطينية كانت قد بدأت منذ سنوات، وليس مع عملية «طوفان الأقصى»، وذلك بحملات تقييد واسعة للحسابات الشخصية والعامة وحسابات المؤثرين الذين يبدون تعاطفهم مع فلسطين، أو انتقادهم للعدوان الإسرائيلي، ما اضطر هؤلاء إلى ابتكار الحِيَل لنشر ما يودون التعبير عنه دون أن يضطروا لمكابدة الحذف أو الحجب، بتجنبهم كتابة كلمات بعينها، أو إضافة رموز إليها تصعّب على «رقيب» المنصة المبرمج على حجب كلمات معينة، الوصول إليها. لكن الجديد الذي لاحظه مستخدمو فيسبوك خلال أحداث غزة الأخيرة أن منشوراتهم لا تلاقي أي تفاعل يُذكر، بسبب عدم ظهورها التلقائي أمام الأصدقاء والمتابعين كما كان يحدث سابقًا، وبات على كل مستخدم أن يذهب إلى صفحة صديقه مباشرة ليرى ماذا نشر؟

يتغنى الإعلام الغربي دومًا بحرية الصحافة والتعبير، ويتشدق بالمهنية والمصداقية، ويزعم أنهما بوصلتاه اللتان يسير بهما. لكنه عندما يجدّ الجدّ ويحين موعد التطبيق لا يُذكّرنا إلا بالمثال العربي: «كلام كالعسل، وفعل كالأسل».

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني