نجاة سعد ودفتر التكرار

06 مارس 2024
06 مارس 2024

رحلت عن الدنيا قبل أيام الزميلة الإذاعية نجاة سعد، مخلّفة صدمة حقيقية لزملائها وزميلاتها، وبالأخص القدامى الذين رافقوها لأكثر من أربعة عقود من الزمن، ومحبيها من المستمعين للبرامج المباشرة التفاعلية، التي شغلت منها (نجاة) مساحات واسعة. وكذلك لأسرة الدراما الإذاعية. فعنصر الرحيل المفاجئ كان حاضرا بقوة. ولا نملك سوى التسليم لقضاء الله وقدره، والدعاء لها بالرحمة والمغفرة، ولأسرتها الكريمة بالصبر والسلوان على فراقها، فهذا طريق كل حي.. أخصص لها هذه المساحة كلمسة وفاء لإسهاماتها في إذاعة سلطنة عمان من ناحية، ولأنها شغلت وظيفة مهمة قلّما يعرفها المستمعون بالنسبة للخريطة البرامجية الإذاعية، حالها حال الجنود المجهولين الآخرين في بعض المهن الداعمة أو المكمّلة لمنظومة المؤسسة الإذاعية، ولأنها من أوائل من تعرّفت عليهم عند التحاقي بالعمل، حيث عملتْ الفقيدة في بداياتها ولسنوات طويلة في (قسم الموسيقى والغناء) الذي كنت أتردد عليه لعلاقتي الشخصية برئيس ذلك القسم، المخرج الراحل المبدع الأستاذ محمد بن ناصر المعولي (رحمه الله)، كما ألجأ لهذا القسم عند احتياجي لبعض المسامع الغنائية أو الموسيقية لبعض برامجي. أما السبب الثالث لكتابتي عن نجاة، فهو أنني تعلّمت منها جزئية جميلة من الفن الإذاعي... تجلس وتفرش أمامها دفترا كبيرا جدا، مجلدا باللون الأزرق، هذا اللون الشهير في الدفاتر القديمة التي ما زالت محل طلب، أقدّر حجمه بحوالي 50/50سم، يأخذ حيزا كبيرا من الطاولة.. يتداول زملاء القسم هذا الدفتر، كل يوم لدى أحدهم حسب دوره. تقلّب نجاة هذا الدفتر، وتحوّل نظرها يمينا وشمالا وتدوّن أشياء لم أكن أعرفها.. وقبل أن أتصفح هذا الدفتر القديم، أبدأ من الحاضر. فأمرٌ عادي جدا اليوم أن تسمع المطرب نفسه في إذاعة ما أكثر من مرة في اليوم، بل وفي البرنامج الواحد، بل وقد تتكرر الأغنية نفسها في الحلقة نفسها!! وإذا سألت عن السبب، قد يرد عليك المخرج أو المنفذ (ياخي حلوة، تعجبني) أو (هذي ترند هاليومين، شكلك ما متابع). وكأن الأغنيات على الهواء حسب الهوى! لذلك نسمع الأغنية الواحدة في كل الإذاعات، وتتكرر بضع أغنيات ليل نهار، وتُنسى الأغنيات الأخرى، وربما مطربون بأكملهم إلى الأبد.. بالنسبة لجيلي يعد هذا من الفوضى وغياب تنسيق للخريطة البرامجية الإذاعية. ولكن مثل كل شيء في هذه الحياة، تغيرت الإذاعات كثيرا.. أقول هذا لأنني تذكرت ذلك القسم الذي كانت نجاة أحد أقدم موظفيه. ولهذا القسم وذلك الدفتر، أهمية خاصة في الخريطة الإذاعية اليومية؛ لأنه يسهم بشكل مباشر أو غير مباشر في الذائقة الفنية لدى المستمعين، خاصة أنه لم تكن توجد سوى هذه الإذاعة.. سألت نجاة وقتها عن هذا الدفتر، لأتعلّم درسا سيكبر معي تراكميا في كيفية توظيف الأغاني والمواد الموسيقية في الإذاعات وبين ثنايا البرامج، ولأعرف أنه كانت هناك مجموعة معايير فنية وأخلاقية تلتزم بها الإذاعات فيما تبثه من أغانٍ. وليس سهلًا أن يُجاز مطرب أو أغنية في أي إذاعة ما لم تلتزم الأغنية بتلك المعايير (صوتًا وأداء ونصًا)، وكنا نسمع قصصا عن تزلف بعض المطربين لمديري الإذاعات بهدف إجازة أغنياتهم، أو تسجيلها في استوديوهات الإذاعة.. فأن تظهر الأغنية في الإذاعة فهذا دليل ضمني لمستوى جودتها، أو على الأقل الاعتراف بها (طبعًا لكل قاعدة شذوذها وتجاوزاتها وسقطاتها) ولكن أتحدث عن المبادئ العامة.. من خلال هذا القسم يتم الاستماع للأغنية وإجازتها لتأخذ طريقها إلى المكتبة الفنية فتعطى رقما خاصا على أرفف وسجلات تلك المكتبة في دفاتر أخرى مشابهة تقريبا، وقد يتطلب إعطاؤها رقمًا آخر في (مكتبة الأصول) التي لا تمس إلا للضرورة.. أما اختيار توقيت بث الأغنية فيخضع لمعايير وذائقة خاصة، كأن تصنّف ضمن الأغاني (الصباحية - المسائية - المنوعة - الرياضية - الوطنية - الدينية - الأطفال - العامة.. الخ).. كما أن المطرب أيضا يخضع لمعايير في عدد مرات ظهوره في الإذاعة؛ فكبار المطربين والمطربات يستحقون الظهور أكثر، فهذا المطرب الكبير يمكن أن تبث له الإذاعة يوميا مع تنويع الأغاني؛ تجنبًا للتكرار، وآخر يكفيه يومان أو ثلاثة في الأسبوع، وهكذا. بل وحتى جنس وجنسية المطربين، فيفضل التنويع بين المطربين والمطربات، وكذلك بين الجنسيات؛ أيضًا تجنبًا للتكرار. كل هذا يضبطه ذلك الدفتر، الذي يُسمى (دفتر التكرار). بداخله جداول، لا أتذكر تفاصيلها، يقوم موظف القسم بتعبئتها بالبيانات اللازمة حتى يتجنب تكرار المطرب أو الأغنية أكثر مما ينبغي، حتى أصبح هذا الدفتر مع طول عهده بالقسم يشبهها في تكملة هيئة نجاة على مكتبها. فلا أجهزة حاسوب ولا أجهزة ذكية، ولا جداول إلكترونية، وإنما الحس المهني والفني.

عندما بدأت العمل في الإذاعة مطلع ثمانينيات القرن الماضي كان قسم الموسيقى والغناء هذا يضم حوالي ستة من الزملاء والزميلات القريبين من عالم الموسيقى ولو تذوقا. وهنا يتم الاستماع للأغنية لأول مرة سواء كانت محلية أو مشتراة من الخارج أو مهداة للإذاعة من المطرب أو الشركة المنتجة. ففي هذا القسم يمكن أن تسمع جدلا حول أغنية أو مطرب يدافع عنه الموظف أنه مظلوم في الظهور أو آخر يحتج على ظهوره لضعف مستواه، وهنا قد تجد مطربا زائرا يناقش رئيس القسم حول ألبومه القادم أو القائم، وربما تحظى بسماعه يغني على الطبيعة.. ولا تجاز الخريطة البرامجية اليومية قبل أن يقول هذا القسم كلمته. ففي كل يوم يتم بث ما لا يقل عن أربعين أغنية تشمل التصنيفات التي ذكرتها، تعبأ بها هذه الخريطة في الفراغات التي تركها قسم التنسيق بعد أن وضع المواد الأخرى بتواقيتها الدقيقة في أماكنها كالبرامج ونشرات ومَواجِز الأخبار، والأعمال الدرامية والأذانات والفترات الدينية والفواصل الإرشادية القصيرة وغيرها من المواد التي قد تأتي عارضة أو مفاجئة، مثل نقل حدث معين سيأخذ حيزا من بث ذلك اليوم مما يحدث إرباكا يجب ضبطه، خاصة إذا كان الحدث غير معروف المدة بالضبط مثل المناسبات التي يرعاها سلطان البلاد، والتي سيتم تخصيص أغانٍ بعينها تُبث قبل الحدث وبعده وأخرى من باب الاحتياط.. من هنا بدأت نجاة سعد رحلتها الإذاعية.. ولأن موظفي القسم يشكّلون باقة من الممثلين والمذيعين والمخرجين، فلا عجب أن تغريها الدراما، فتتدرج في التمثيل الإذاعي حتى تصبح أحد أهم عناصره النسائية، ثم يغريها (الميكروفون) أكثر حوالي منتصف التسعينيات لتجد أفقًا أوسع في قسم المذيعين، بعد دورة تدريبية واسعة من المنتسبين لوزارة الإعلام، وكذلك من أقسام الإعلام في عدد من المؤسسات المدنية والعسكرية، على يد الأستاذ محمد المناصير (أردني)، تخرجت منها نجاة التي ستترأس لاحقا قسم المذيعين حتى إحالتها للتقاعد، بعد أن ترأست قبله قسم الموسيقى والغناء، ومعها نخبة من الزملاء، منهم (مع حفظ الألقاب) محمد البلوشي، وكيل وزارة الإعلام اليوم، والنجم والكاتب الدرامي محمود بن عبيد الحسني الذي سيتولى دائرة مسؤولة عن مخرجي ومنفذي البث الإذاعي، وأحمد الكندي الذي سيصبح مديرًا لإذاعة القرآن الكريم، وسليمان الحسيني الذي سيصبح مرافقًا خاصًا لجلالة السلطان، وحسن المجيني الذي سيصبح رئيسًا للتوجيه المعنوي وإذاعة الصمود بوزارة الدفاع، وأحمد العثمان، الذي سيصبح الدكتور أحمد، لتتخرج على يديه أجيال من الإعلاميين في محافظة ظفار.. وخميس البلوشي الذي سيصبح مديرًا لإذاعة الشباب، وستشكل معه نجاة ثنائيا جميلا لكمٍّ كبير من الأعمال الإذاعية والفترات المفتوحة، مثل (صباح الخير يا بلادي) و(المسابقة الرمضانية الرئيسية) و(مهرجان مسقط) و(انتخابات الشورى) و(الإعصار جونو) و(الفترات المفتوحة في الأعياد الدينية والوطنية) وغيرها..

غادرت نجاة سعد وقد أغلقت دفتر التكرار، وتركت بقايا نصوصها الدرامية، وقصاصات برامجها، في وقت كانت أنفاسها الثقيلة حتى آخر وقتها من الدنيا (دخون) من أثير إذاعة سلطنة عمان.

محمد المرجبي إعلامي عماني