مقامات: كسر طوق العزلة

19 سبتمبر 2021
19 سبتمبر 2021

بعد زمن من العزلة الجبرية وسطوة كائن ما زال يتصدر حيواتنا بجبروت وقوة؛ ها قد حدث وعدنا إلى الحياة التي نعرف ونحب ونحيا، عدنا إلى معاهد العلم ودروب المعرفة، ها قد فتحت الحياة أبوابها مجددا لخطوات أبنائها لتدرج في مدارجها بخفة ومرح يليقان بزمن ثقيل من الخوف والعزلة.

ليس الأمر تماما كأن شيئا لم يكن، فما زلنا نحيا باحترازات كبيرة، وما زال الخوف سيد الحال؛ فالكمامات تغطي وجوهنا، والمعقمات تسكن حقائبنا ومكاتبنا وبيوتنا، وما زلنا نخشى الآخر، ونهرب من القرب والمحبة التي كنا نتوق إليها، وهذا أبشع ما فعلته كورونا بنا، لا حضن أم ولا عناق أخ أو أخت أو صديقة، أما إذا أصيب الحبيب والقريب أبا أو ابنا فنعتزله في أشد لحظات حاجته لنا، ونتركه يعاني وحيدا إلا من اطمئنان من بعيد، وعناية خارجية تجسد الخوف منه أكثر من الخوف عليه.

ها نحن على وشك الخروج من النفق الكوني الذي وجدنا أنفسنا فيه ذات صدفة لا شأن لنا بها. نحن الكائن المغرور الذي ظن بنفسه القوة وهو أضعف مما تخيل، الكائن الجبار المريض بالعظمة الخرقاء، والزهو الأرعن. الكائن الذي نصّب نفسه سيدا على الكون وعاث فيه فسادا، وعنصرية وغرورا، فاستبد وظلم حتى جنسه وربما نفسه أيضا.

كأننا على وشك الخروج من عنق الزجاجة الذي عشنا فيه زمنا ليس هينا، رغم أننا نراه الآن قصيرا، لكنه في عمر كسر اعتياداتنا طويل جدا ومربك.

أتأمل طريق العودة من شرك هذا الارتباك الكوني، انفتاح بوابات السجن رويدا رويدا ونحن نضع أرجلنا ببطء خارج البوابة الغليظة المسيجة بالخوف والموت، هل سنفعلها أخيرا إذن؟!، هل سنخرج؟! وكيف سيحدث ذلك؟ ببطء شديد كما يجب وكما ينبغي، وقد استوعبنا الدرس، وفهمنا قوانين الطبيعة ووجوب احترامها، حاسبنا أنفسنا، طهرناها من كل رجس وقبح وظلم، استوعبنا أن الخير والمحبة والعدالة والجمال هي روح الله على هذه الأرض ورسالته التي يحملها البشر، وأن عكس ذلك من قبح وغرور ونرجسية وظلم تستوجب غضبه وحسابه هنا على هذه الأرض أيضا.

هل سنعود ونحن أجمل وأكثر إيمانا وعدالة ووعيا، أم سنعود بعجلة الإنسان المجنون الأهوج الذي أوصلنا بهوجائيته وظلمه لهذا المآل، والذي هو أسير عاداته، وكثيرا ما يكون عصيا على التغيير، ولا يجيد التأمل والتفكير، وقراءة الدروس وتغيير المسار ما أن يستدعي الأمر ذلك، هذا الذي لم يعتد الرحمة، ولا يبحث عن السلام، ولا ينظر لنفسه كجزء من هذا الكون فقط، وأن عليه احترام قوانين الطبيعة كي لا تنقلب عليه وتنتقم منه وتعاقبه شر عقاب، وللأسف يصيب هذا الجزاء الكرة العجوز ومن فيها؛ لأننا نحيا اليوم في شبه قرية صغيرة، تنعدم الحدود بينها، وكما تصلنا نتائج العلم والاختراعات وننعم بهبات المعرفة ورفاهيتها، وجميل الوعي والفن والجمال؛ نتشارك الأمراض والأوبئة!

هل ستهدأ عجلة الرأسمالية المادية الجبارة، وتضع الطبيعة والإنسان في حسبانها، هل سيفكر العالم في التفاصيل الكونية والروحية ورسائل الرحمة قبل أن يستعيد حركته بسرعة وجنون، وهل سيضع القوانين التي تضمن ألا يعود ذلك الشر وما يماثله من شرور لا نعلم حتى الآن هل هي سنن الكون أم صناعة الأشرار؟!

وهل ستضع الدول العِلم في مرتبة تليق به بوصفه صمام أمان وحماية، فتموّل البحوث، وتنشئ مراكز البحث، وتدعم الجامعات، وتقدر العلماء؛ كي لا يسقط البحث العلمي في فخ الرأسمالية التي تستغله وتستغل حاجة الإنسان له حتى ليصبح سلعة وربما يصبح افتراء ونهبا ووسيلة لكسب المال واستغلال البشر وزيادة غنى الأغنياء وفقر الفقراء.

لا يمكن الجزم بشيء بعد الآن، ولكن الدروس الكبرى الذي خرجنا بها من محنة لم تنته بعد؛ أن جنة الإنسان في قلبه وبيته، وأن الوجود البشري وجود جمعي مرتهن بالحفاظ على قيم الإنسانية وتوازن الطبيعة معا، وأن الإيمان بالعلم ضرورة نجاة، وأن لا ضمانات للحياة على هذا الكوكب إلا بالإيمان بالخير والعدالة والجمال وأن ما دون ذلك جهل يجب محاربته لأنه يفضي لكل قبح وشر.