مقامات: الشعر

20 مارس 2022
20 مارس 2022

في 21 مارس من كل عام حيث يوم الشعر؛ ينبعث السؤال الأزلي؛ ما هو الشعر، كيف يتأتى؟ بالموهبة أم بالاكتساب؟! وإذا كان مكتسبا؛ فكيف يُكْتسب الشعر؟ وما علاقة السليقة الشعرية بالاكتساب؟

ولا إجابة! فالشعر هبة من روح الرب حيث تتحد الرؤية مع الرؤيا، وتحلق في أفق آخر منظور وغير منظور، هو روح أخرى تسكن الروح وتأخذ بيدها لعوالم بعيدة ولا مرئية، أو تصبغ نظرتها للأشياء وللكون بألوان أكثر نصاعة من جهة وأكثر خفوتا وظلا وعتمة من جهة أخرى، إنه إحساس مضاعف بالألم والوعي وإدراك الجمال. وبالتالي فهو موهبة، والموهبة هبة وهي البذرة الأولى التي تلقى في أرض الخلق والتخلق، وتشّكل بؤرة جاذبة للغة والجمال والشعور، بذرة صغيرة من لدن الرب يختص بها من يشاء وتجري في الجينات عبر الوراثة، وتتجلى عبر ذلك الارتباك اللذيذ مع كل نص يسمع ويقرأ فتذهب معه، ثم تتشكل رغبة عبر حكة في الدم والأصابع تدفع للكتابة بلا قدرة على رفضها أو مواربتها، فتأتي الكتابة مبكرة لينة طرية وتمضي في طريق التكون بماء المعرفة وشمس القراءة وجمالية الوعي وفتنة المجهول ولذة التمرد؛ لتمضي في طريق طويل من التشكّل عبر اكتساب اللغة والوعي.

ولا يكتسب الشعر بالمهارة والدربة وإنما ينمو، تماما كما قد يموت إذا لم يعتنَ به، فتلك البذرة الصغيرة التي ألقيت في أرض الروح تحتاج للعناية والسقيا بماء المعرفة والشعر والقراءة، تحتاج لأرض طيبة وعميقة لتمد جذورها عبرها، وتحتاج أن تلتصق بسيقان أكبر، وأن تفتح أذرعها لشمس الشعر الأقدم، تحتاج أن تحتك وتسافر وتستمع وتقرأ لتتكون وتنمو وتصبح سامقة يوما بعد يوم وعاما بعد عام، تنضج بالمعرفة والجمال والرؤية، وتتحد مع روح الأدب في الكون لتصبح جزءا منه، تسابق خطواتها كل خطوة في هذا المجال، ثم تخط لنفسها طريقا واضحا فتسير عليها، وتعمّق خطواتها في دربه، وتصنع أنموذجها الخاص ولغتها المائزة، ووعيها المتفرد وجمالها الفاتن لتصبح يوما جديرة بالشعر فتستحق أن تقرأ.

وفي يوم الشعر لا يمكنك إلا أن تتذكر كلمات الساحر بيسوا " كنْ شاعرا في كل شيء تفعله، مهما يكن بسيطا وقليل الشأن. كن شاعراَ خارج النص قبل أن تكون شاعرا فيه. كن شاعرا في مأكلك ومشربك وسلوكك وحبّك وذهابك وإيابك ونومك. كن شاعرا على الدوام".

هذه الكلمات التي تدرك حقيقتها وعمقها وعبقريتها بعد زمن ليس قصيرا من عمرك الزمني والمعرفي؛ فتعرف أن الشعر ليس هو النص أو ليس النص فقط بل هو الحياة، هو التفاصيل الصغيرة بأجمل ما يمكن أن تعيشها، هو الفتنة التي تغمرك، والدهشة التي تحركك، هو أن تمتلك خيوط اللعبة وعصا الساحر معا، أن تجعل كل شيء ربيعا وضحكة ورقصة مدهشة.

تدرك أن الشعر ضحكة ملقاة على قارعة الطريق يصطادها قلبك وينفجر فيها، وأنه دمعة الوجود حين يغادر مسافر جميل الحياة وقد سكب فيها عصارة روحه ووهج قلبه لتكون أجمل.

وأن الشعر هو الصمت الذي يغمر الكون والروح بالسلام والرؤى البعيدة، وهو تلويحة سلام محبة للأمكنة التي نعبرها واصطياد نجمة من الليل وغرسها في جديلة طفلة أرهق قلبها الحزن، وأنه الوطن الذي تغيب في أحضانه كلما اشتدت التحولات وتضاعفت الأوهام.

الشعر هو قهوة الصباحات اللاذعة بمرارة وعذوبة في ذات الآن، وهو انثيالات الهزائم والدموع بين يدي من نحب، وهو الشحوب الذي يسوي بيننا وبين الخوف، والدمع الذي يسوي بيننا وبين الوجع، والأمل الذي يسوي بيننا وبين الهزائم والذكرى التي تسوي بيننا وبين الموت.

الشعر هو الحياة بكل ما نحبه ونعيشه بجمال وهو المستحيل البعيد الذي نحلم أن نعيشه وربما لن نفعل ومع ذلك نستمر في الحلم والحياة لأجله.

أما لماذا نقرأ الشعر؟! فأننا نقرأه لنجعل لوجودنا معنى؛ معنى بعيد وحقيقي حد الألم، فالمعنى الأسمى للوجود هو الإحساس المضاعف بالأشياء من حولنا، الإحساس بالجمال الذي قد يشبه الألم. ويفيض اغترابا ووجعا، وليس كالشاعر أحد يستطيع أن يهبك حقيقة ذلك المعنى.

أن تتأمل النص الذي بين يديك كلمة كلمة، أن ترتفع به للأعلى، وتتخذ من الشاعر صديقا، أنا أخرى مغتربة وبعيدة وطيبة في ذات الآن.

فالشعر هو الصدق الذي يستنسخ الداخل للوجود كنافذة غير مواربة، والقصيدة مرآة التشظي في العدم هناك حيث أنا الشاعر تتوزع في ذرات الكون لتشكل حالة من إعادة تشكيله عبر اللغة.

ولماذا نقرأ الشعر؟ لنكون أجمل، أبعد عن كل شيء عدا القلق الوجودي من قيمة الحياة والموت معا في اتحاد ضمني ومعرفي، نقرأ الشعر لنسلم بالجمال من لذائذ القبح وشراكه الجاهزة وفخاخه الواسعة والخبيئة حتى لحظة السقوط. نقرأ الشعر لنتحد مع روح الشاعر وكلماته فيقولنا كما نريد وكما هو .هل مازال الشعر يقرأ؟ لا إجابة يقينية، ولكن بالتأكيد ثمة من يقرأ الشعر، ثمة أرواح تتشربه كأسفنجة فارغة دونه، ثمة من يقاوم به وعبره الحضور الثقيل للحياة. فالشعر جذر الوجود الأصيل، نسغه المتصل بالحقيقي والجوهري منه، والشعر حنانات الكون وخيالاته الذاهبة في المدى اللامرئي واللامعقول.

من يقرأ الشعر هو شاعر بالضرورة، شاعر بالحب والجمال واللغة، شاعر بكل ما كُتِب وبكل مالم يكتب من ظلال النص، شاعر بروح الشاعر القلقة التي تحوم في فضاءات اللغة، وفضاءات الكون.

ومن يقرأ الشعر هو ابن بار وأم عظيمة معا في ذات واحدة، هو الربيع المستمر من أول الفصول حتى آخرها ولا بأس أن يكون العالم خارجه شتاءً قارصا أو صيفا حارقا فهو في أمان الشعر وجماله.

فكل عام والشعراء ينابيع خير وجمال، والأمهات قصائد وقوافي وسواقي للمحبة، وكل عام والشعر بخير.