مقامات.. التفاصيل الجانبية للحياة ودروسها
لم يكن الأمر بعيدا ولا قريبا، غريبا ولا مألوفا، متوقعا ولا مستبعدا، لكنه حدث هكذا ضمن كل الاحتمالات الواردة والمستبعدة معا في الحياة؛ «أصبنا بكورونا»، حدث الأمر بأن عدنا من رحلة هي جزء من الحياة غالبًا بحدث ليس منها أبدا، بل كان توجسا واحترازا جادا على مدى سنتين أو أكثر، عدنا بأجساد يسيطر عليها الفيروس اللعين فتصبح وسيلتها للدفاع الحمى والصداع؛ وأخذنا نتساقط في فخ الوهن والألم، ونتدثر بالآهات قويّنا وضعيفنا، كبيرنا وصغيرنا، بعيدنا وقريبنا.
وهكذا أصبحنا موبوئين؛ يهرب منا الأحباب ويجافينا الأصحاب، نتمتم بالأدعية والصلوات ونتناول المهدئات والمسكنات. نرحم الصغير لسقوطه في الفخ والكبير لذهابه في المصير ذاته.
وهكذا كانت تمر الأيام ببطء مرير ودعوات طيبة تغمر الأفق، ووهن يلف الأجساد ويربك المخططات والاعتيادات، ويصبح الهاتف نافذتنا الوحيدة على الكون، ماذا كان سيحدث لو حدث كورونا في زمن بلا هواتف ذكية؟!!
هذا ما حدث باختصار شديد، وجع وتعب وحمى ووهن ورائحة المرض تملأ المكان وتزكم الأنوف لأسبوعين أو أكثر قبل أن نقوى على استئناف الحياة كما نعرفها ببطء شديد ورغبة عظيمة! وهذا هو المرض غالبا.
ولكنك تدرك بعد ذلك أن ما يحدث في اللغة ليس هو ما يحدث في الواقع، وأن كل ما يكتب مهما بلغت بلاغته وقدرته الوصفية لا يتعدى رسما باهتا وصورة خارجية وربما سطحية جدا، وأن وظيفة اللغة ليست أكثر من شحذ مخيلة القارئ أو المراهنة على تجربته، فكل ما يكتب هو رهين بالتلقي وقدرة المتلقي على استحضار الصورة من واقعه وتجربته أو من مخيلته وقدرتها المتفاوتة بين شخص وآخر، وأن القراءة هي الخيط الذي يربط الحياة باللغة أو العكس.
طوال فترة المرض ربما لأن «كورونا» الجديد الذي أصبنا به أبعد ما يكون عن مرض جهاز تنفسي بل أقرب لمرض في الجهاز الهضمي، كنت أستحضر كل الكتب التي قرأتها عن تاريخ المرض، وكل الأفلام التي شاهدتها عنه، عن الكوليرا تحديدًا في السينما المصرية والعالمية، «اليوم السادس ليوسف شاهين بطولة داليدا» رائحة الترجيع تصل بين بيتي وبينه، وبين رواية العمى، والأيام، وقصيدة نازك الملائكة «الكوليرا» التي ترن في رأسي وصوت السياب وهو يقول.
لكَ الحـَمدُ مهما استطالَ البـــلاء
ومهمــا استبـد الألـم
لكَ الحمدُ إن الرزايـا عطـــاء
وإن المصيبــات بعض الكـَـــرَم.
وحين تتماثل للشفاء تدرك عمق مدرسة المرض، وأن الألم يربيك، ويعلمك التعاطف مع كل مريض، بل كل إنسان على هذه الأرض خاصة أصحاب المعاناة، ويجعلك تشعر بالامتنان لكل سؤال ولكل من خاف عليك، واهتم بأمرك، وتدرك قيمة الروح الإنسانية والأخوة والصداقة التي تجمع البشر وتجعل للحياة معنى وقيمة.
كما تدرك قيمة النعم التي تتمرغ فيها وقد تنسى كم هي عظيمة، وحين تُحرم من أبسطها فجأة تشعر بقيمتها وعذاب فقدها، فنجان القهوة في الخارج، الضحكة من القلب، المشي، تناول ما تحب من الطعام.
المرض مدرسة عظيمة تخرج منها وافر الشكر والامتنان، وكثير اليقين بأنه ابتلاء يكبر على قدر محبة الرب لك، ويزول بعد أن يؤدي رسالته وأن عليك تتبع الإشارة والامتثال للدرس الكبير فالحمد لله كثيرا. في هذه الفترة تحديدا وبينما كان كورونا ينخر عظامي وينهش معدتي شاهدت فيلم
THE PROFESSOR AND THE MADMAN « وعادة أفعل ذلك، أربط زمني السيئ أو الجميل بعمل فني (كتاب- فيلم - أغنية.. الخ) ليكون جزءًا منه لاحقًا وجزءًا من الذاكرة.
هذا الفيلم الذي تأخرت في مشاهدته كثيرًا رغم التحفيز الكثير والطويل، والذي حقق مقولة كثيرًا ما سمعناها وهي «أن بين العبقرية والجنون شعرة»، بل وأكدها بقوة، ولذا تحولت هذه الشعرة فيه لرابط عظيم من المحبة والإخلاص الذي قاد للخلاص.
الفيلم يدور حول البروفيسور العبقري الذي يريد أن يضع معجم أكسفورد ليضم كل مفردات اللغة الإنجليزية، فيلجأ لصعوبة العمل وكثرة المفردات لطلب متطوعين، وطبيب عظام مصاب بلوثة في دماغه بعدما أثرت عليه مشاهد الدم والقتل التي شاهدها في الحرب فيطلق النار على رجل بريء -ظنه رجلا يتتبعه ويريد قتله- وأرداه قتيلا؛ فيحكم عليه بالسجن في مصحة الأمراض العقلية.
تصل رسالة طلب متطوعين لهذا الطبيب في السجن فيسخّر كل طاقته لخدمة المعجم وينجح في ذلك أيما نجاح، من جهة ثانية يرسل كل راتبه التقاعدي لأرملة المغدور وأطفاله، وتبدأ في زيارته حتى يقع كل منهما في غرام الآخر.
ينتهي العمل في المعجم في حين تتدهور صحة الطبيب المجنون بسقوطه في الحب، ولإخضاعه لتجارب نفسية زادت حالته سوءًا؛ فيقرر البروفيسور مساعدة صديقه فيطلب من رئيس الوزراء تقديم عريضة بإخراجه من المصحة وتسفيره لبلده (أمريكا) وهكذا ينقذه من وضعه المزري، ويتغلب هو على كل عقبات صناعة المعجم وحساده، ويكرّم لجهده الكبير.
الفيلم يضعنا أمام صور لحالات العبقرية التي تسطّر تاريخ الإنسان على هذا الكوكب، والأثمان الباهظة التي يدفعها الإنسان لتحقيق مطامع السياسيين في الحرب، والمعارك الجانبية التي يخوضها كل صاحب فكر كبير ونبيل لتحقيق فكرة بسيطة وخيرة على هذه الأرض أو ينجز عملا وازنا وعظيما للعلم وللإنسانية، ولكن ومع كل ذلك على الإنسان الحقيقي والمبدع المدرك لقيمة فكره ألا يتنازل عن أحلامه ويحاول الثبات على مبادئه حتى آخر لحظة ولسوف يصل بالتأكيد في آخر المطاف لتحقيق منجزه وسيقدم للبشرية رسالة وجوده على هذه الأرض كما حدث مع بطلنا وأبطال آخرين على هذه الأرض حتى بدون تاريخ أو أفلام.
الفيلم مأخوذ عن كتاب طبع عام 1998 حول سيرة حقيقية للرجلين، وأنتج عام 2019، وهو من بطولة ميل جيبسون، وشون بن، ومن إخراج فرهاد صافينيا، وتأليف وسيناريو تود كومارنيسكي وصافينيا.
