مشهد قبل المعرض

21 فبراير 2024
21 فبراير 2024

عندما نحضر حفلا أو فعالية ما، فنحن نحضر المنتج في شكله النهائي، وأبهى حلته، ونستمتع به. وقد لا يعنينا الجهد الذي بذل ليصل إلينا بحالته تلك.. فالتحضيرات والبروفات التي تسبق العمل ربما استهلكت من منظميها النصيب الأكبر من الجهد، أو حتى المال.. فهل تساءلنا مثلا ما الذي يحدث خلال الأيام التي تسبق افتتاح معرض الكتاب؟ .. توجهت أول أمس إلى مركز عمان للمؤتمرات والمعارض، هذا الصرح الذي أفخر به وأفاخر، بأنه من منجزات بلادي.. لا زحام على المواقف، لا تدافع على البوابات، وإنما هدوء وأناقة، وهيبة عمرانية، ورحابة في المساحات، ودقة في كل التفاصيل.. لا حركة على الساحة الخارجية إلا من بعض المارة، هذا يحمل حقيبة ظهر مكتنزة، وآخر بيده مطويات أو مشاهد مسرحية، وفتاتان بيدهما أكواب قهوة أكبر من كفيهما، يبدو عليهما الانشغال وربما بعض القلق، وسيارة تُنزل أجهزة حساب النقود وتدقيقها، وشاب بيده بعض من أدوات التصوير أو التصميم..

وصلت للمداخل وولجت من الباب الأول على الطرف إلى القاعة العملاقة الشهيرة، التي لا تكاد تلملم مكونات فعالية محلية أو دولية، حتى تستقبل تظاهرة جديدة.. لو كانت هذه القاعة تتحدث لقالت- رغم حداثتها- الكثير عما مرّ بها من مناسبات، ومن نماذج، وعما كان ينتاب أبطال تلك المناسبات المجهولين والمعروفين من قلق عند التحضير، وحماس أثناء التنفيذ، وفرح بعد الإنجاز. فعند كل مناسبة يتغير المشهد كليا، وكأنه موقع آخر، وتتغير الشخصيات وهوياتها، بل وتتغير حتى مساحة المكان حسب الحاجة.. هذه المرة تستعد هذه القاعة لاستقبال معرض مسقط الدولي للكتاب الذي ينطلق اليوم في دورته الـ 28. وهذه التظاهرة بالذات تريد كل المساحات، الداخلية والخارجية، وربما حتى الزوايا والجيوب المتبقية هنا وهناك.. المشهد الذي يراه الجمهور اليوم، غير الذي رأيته قبل يومين.. القاعة بأكملها مشغولة.. حركة من نشاط آخر. ليس من نوع الهدوء الذي يسبق العاصفة، وإنما الجلَبة التي تسبق صخب الفرح.. ربما المرة الأولى التي أرى فيها هذا العدد من النجارين والفنيين في مكان وتحت سقف واحد.. تم تحديد موقع ومساحة كل جناح.. فهذا جناح لن يزيد عليه المنظمون شيئا عدا معروضاتهم، وآخر يسعى أن يكون بهيجا بألوانه وإضاءته، وثالث يمتد رأسيا قدر ما يستطيع ليراه الزائر من بعيد.. بدأت تبرز عناوين وأرقام الأجنحة وجنسياتها، وكلمات تشبه المناسبة (مكتبة- دار النشر ال- كتاب- رواق- وراق- العربية- للأطفال- الرقم...)

وقبل أن تكتسي الأرضيات بما يليق بأيام العرض، فالممرات تتكدس فيها صناديق متقاربة الأحجام والألوان، حجمها متوسط تتحمل أوزان الكتب الثقيلة عادة، لو اقتربت منها أكثر فسوف تشم رائحة الورق والأحبار.. بقايا الأخشاب المربعة التي تسند الصناديق، وقد تستخدمها لاحقا بعض البوتيكات ضمن ديكوراتها وتصاميمها، وأكوام صغيرة من الأربطة البلاستيكية التي تحررت منها، لتُخرج مفاجآت جديدة من حصاد المطابع.. صديقي إبراهيم الصلتي- الذي كان بانتظاري- وأخوه ماجد، اللذان تخففا من الملابس الرسمية، ولبسا القفازات بأيديهما، يبذلان كغيرهما جهدا بدنيا وذهنيا واضحا في صف الكتب على الأرفف والطاولات التي ما زالت خالية. يضعان مجموعة في زاوية اختاراها بعناية لهذا العنوان أو ذاك، ولكن لا يلبثان أن يغيرا كتابا مكان آخر، فهذا الكتاب جديد ويجب أن يأخذ مكانه ومكانته على الواجهة، وهذا مكرر لا بأس أن يأخذ مكانا آخر، وثالث يمكن أن نضعه في أي مكان، فمن يريده سيسأل عنه..

خارج البوابات الخلفية العملاقة، تقف شاحنات صغيرة في الهواء الطلق، لتنزيل أحمالها التي وصلت قبل قليل برا أو بحرا، بينما يطمئن بعض المشاركين على وصول كتبهم لاستلامها وتوجيهها إلى جناحها.. اثنان أو أكثر من المشاركين، سحبا بعض الكراسي من الداخل وقد قرّبا طفاية السجائر التي كادت تمتلئ ودلة قهوة، واضح أنها رفيقة السفر، وقد دخلا في حوار عميق، تعلو وتيرته مع الحديث، وتهدأ قليلا مع رشفة القهوة أو أنفاس الدخان.. الرافعات الثقيلة الصغيرة ذات الأشواك تحمل في مقدمتها الصناديق وتمضي بها، ولا يعنيها ما بداخلها إن كان فكرا أو خواء، مثل ذلك الذي يحمل أسفارا ولا يعي محتواها.. في جانب آخر زملاء القنوات والصحف متحفزون متوزعون بين كابينات التعليق المطلة على القاعة، أو الزوايا التي اختاروها بعناية حيث أكبر عدد من الجمهور والمارة كفرصة أيضا للترويج لمؤسساتهم وقد حضّروا لها البنرات المناسبة. فالصحف ستفرد وتتوسع في المساحات بحجم وقيمة المناسبة، والإذاعة العامة تجذر أكثر برنامجها الشهير (خير جليس)، وتأبى إذاعة الشباب إلا أن تكون لها مساحة جديدة بعنوان (رواق المعرض)، وكذلك الإذاعات الخاصة، والتلفزيون يفتح فهرسا جديدا كالمعتاد ببرنامجه المعروف، وهكذا تتسابق القنوات والمواقع وأبطال السوشل ميديا. مجموعات الواتساب يتحدث أعضاؤها عن المعرض والمعروضات والقوائم والكتب التي يقترحونها على بعضهم. فهنا سوق ثقافية معرفية دولية، تبيع الكتب والمميز من المطبوعات والأفكار، وتحيي المناسبات، وتكرّم بعض الراحلين من أبناء الوطن المبدعين..

محافظة الظاهرة تستعد لتقديم نفسها بكنوزها الثقافية والحضارية كضيف شرف في هذه الدورة، وقد حُجزت لها مساحاتها التي حتما سيستثمر مبدعوها كل زاوية منها لتعطي دلالة أو قراءة تتفرد بها.

يشاركني إبراهيم فكرة متعة التحضيرات والبروفات ويقول: (هذا المشهد والحالة تنشرى بفلوس) ويضيف: لا يساوي هذه المتعة سوى حزن الختام.. هذا قليل من كثير من التحضير الذي يتجاوز هذا المبنى، وهذا الوقت.

منذ وقت طويل وأنا أنتظر هذا اليوم، وهذا المشهد، لأرى كتاب (كلنا مريم) وقد أخذ مكانه على منصات المعرض، منتظرا قراءه، الذين قد يتهامسون قبل أن يقتنوه، ويتساءلون: ما قصة مريم التي استحقت أن يوثق عنها أبوها خمسمائة صفحة؟!.. وقفتُ في زاوية تخيلت اكتمالها، وبأنها ستكون الأجمل والأرحب والأبهى، مسترجعا أحلامي مع مريم عندما كنا نخطط كيف سنقف أنا وهي وأسرتي، لنعلن تدشين كتابها، ونقدم إيجازا عن قصة كفاحها وصبرها، وعن دروس تعلمناها، وقد بدت وجوهنا أكثر جمالا، وعيوننا تلمع بريقا ونورا، وألسنتنا تتمتم بالشكر لله بأن تم العلاج، وعلى رأسها تاج العافية، ونوقّع معا لكل من يقتني الكتاب، وأتمادى في حلمي كيف ستتلقى مريم تهاني الشفاء والدعوات لها بحياة سعيدة تنسيها وجع الآلام ووخز الإبر وتجرع الأدوية وأجنحة التنويم والعناية.. كم سنكون سعداء.. ولكن سرعان ما صحوت من أحلام اليقظة إلى واقع أن القصة لم تكتب لها النهاية السعيدة، وواقع الفَقد ومرارة الرحيل. وأصحو على مفاجأة أخرى غير سارة، بأن الكتاب لن يصل اليوم ولا غدا ولا بعده، وإنما بعد المعرض بأجل غير مسمى، بسبب الظروف الملاحية في البحر الأحمر وباب المندب. فالمنطقة ملتهبة، والسفينة التي حملت الكتاب من بيروت لا تجرؤ على عبور المضيق، فتعود أدراجها إلى البحر الأبيض، وربما تضطر إلى الالتفاف على القارة الإفريقية حتى رأس الرجاء الصالح..

سلمني إبراهيم النسخة الوحيدة التي أحضرها معه صدفة أ أحمد كنفاني في حقيبته من رحم المطبعة.. احتضنت الكتاب، وقبّلته في جبينه، حيث رسمت مريم باقة حمراء... سامحيني يا صغيرتي إن لم يجد كتابنا مكانه في المعرض، ولكن فلنحتفل أنا وأنت بأن الكتاب قد اكتمل وطبع، وتقبلي مني هذه النسخة الأولى اليتيمة، لأضعها بين لعبتك ونظارتك، لأواصل حديثي اليومي معك.