لا يذكرون في مجاز «2»

16 يناير 2024
16 يناير 2024

تحضر المادة كعامل بنيوي مهم في كتابة هذه الرواية، إذ تتخذ من اللمس طريقة للتعبير، في تناءٍ عن التجريد لصالح الحسي وتستخدم اللغة على طريقة هايدغر «اللغة كإنتاج للحضور» لتكريس ذلك فلنتأمل روايتي هدى حمد، لا يذكرون في مجاز، وروايتها التي سبقتها (سندريلات مسقط) سأقتبس من الأولى:

«يلتزمُ أهل مجاز الصمت المطبق على الرَّغم ممَّا يُظلِّل مآقيهم من حزنٍ قديم. يتركون لي القليل من الطعام والماء كحيوانٍ برِّيٍّ يُشفقون عليه من الموت، ولكنَّهم لا يُفصحون عن شيءٍ ممَّا يختلجُ بدواخلهم. الرجال السائرون فجرًا إلى حقولهم في مواكبَ من ثيرانٍ وأبقارٍ وماشية، مُدجَّجين بمجزَّاتهم الحادَّة، بالكاد يرفعون أعينهم لينظروا إليَّ. والأطفال الذين ضمّدتُ لهم جراحهم المُلتهبة بأعشابي السحريَّة، يلفُّون أذرعهم فوق بعضها بعضًا ويتأوَّهون، ترتفع أقفاصهم الصدريَّة قليلًا، ويبدو كأنَّهم سيتخلُّون للحظةٍ عن أشياءَ تعتمل في أدمغتهم الصغيرة ثم يتراجعون، وتتشاغل أقدامهم الحافية بقذفِ أحجارٍ صغيرةٍ ومُهملة. أمَّا العجائز الضامرات والسمينات اللواتي يتركن لي مشروب الزعتر الساخن أو حليب أبقارهنَّ الدافئ بالقرب من نوافذهنَّ الخشبيَّة، فإنَّ أعينهنَّ المُحاطة بالتجاعيد مُنطفئة البريق والمعبَّأة بالشجن، كنَّ الحلقة الأضعف، كنَّ زاهدات ويوشكن على التخلِّي عمَّا هو مُخبَّأٌ بين شفاههنَّ، ولكنَّهنَّ في كلِّ مرَّةٍ يتراجعن، أشاهدُ قبضة أياديهنَّ الضجرة تضربُ على أفخاذهنَّ بقوَّة، فأُدركُ أيَّ ندمٍ وتشويشٍ يُعبِّئُ قلوبهنَّ التالفة!‏».

ومن رواية سندريلات مسقط:

«أقفُ على أمشاط قدميّ. أضمّ يديّ خلف ظهري. آخذُ نفَسًا عميقًا. أشفطُ معدتي إلى الداخل، حتى لا تظهرُ تكسّرات الفستان فوق الكرش البارز. أحافظُ جاهدة على اتّزاني ريثما يصلني صوت وضوء الفلاش المنطلق من كاميرا الهندي في استوديو التصوير. أرخي قدميّ، أخرجُ الهواء المحبوس في صدري، فينفلتُ كرشي ليتمدّد مجدّدًا في الحيّز الفارغ من فستان العيد. يطلبُ والدي من الهندي أن يكرّر الأمر، لنحصل على خيارات أكثر من الصور».

فلنتأمل اللغة في العملين، الأول وهو يشيد عالمًا قديمًا، يلفه القص الشِعري للنستالوجيا والثاني الذي تحضر فيه صرامة النثر اليومي لواقع مؤرق وجارح وما زال موجودًا بحيث لا يمكن تجريده من قسوته بعد. تنجح هدى حمد في التقاط المزاج السحري في «لا يذكرون في مجاز» وتكرسه بنعومة هائلة وبإرادة لا تزيح أبدًا في الكتابة كلما تقدمت. حتى أن بطلتها في القصة تقول بين الوعي وغيابه «ليس من اليسير قراءة هذه اللغة البائدة» وبهذا فإن تكريس كل من الواقعية السحرية والخرافة والأسطورة يجيء في منتهى البراعة، حيث ينبض العمل بإيقاع متسق مع رؤاه وما يقوله. وبهذه اللغة فإن هدى لا تتعامل مع الإرث الثقافي الذي تجترح منه بحساسية كبيرة كما لو أنه فلكور تحاول «استخدامه» بل إنها تجعله نابضًا بوجودنا منذ تلك اللحظة التي ولدت فيها مجاز في الزمن القديم عبر السرد، وحتى هذه اللحظة التي أكتبُ فيها هذا أنا الفتاة الشقية في عام 2022 مما يجعلني أرى كيف أنني أنا أيضًا امتداد لذلك السحر ولذلك الإيقاع الغني بكل تلاوينه.

ومن خلال تموجات دقيقة في رواية «لا يذكرون في مجاز» نقرأ عن مقارعة السلطة في أرض تبدو لنا للوهلة الأولى وكأنها منومة مغناطيسيًا، إلا أنها تثور من رحمها نفسه، دون أن تستورد الرغبة في العيش بكرامة، إنها تصنع مقاومتها الخاصة، التي تشبه مجاز وحدها. لعل أبرز تلك التموجات هي الفضول الأبدي الذي يتلبس جميع من سيطردون لجبل الغائب ليصبحوا منسيين وغير متذكرين. جميعهم ألفت بينهم رغبتهم في القراءة، تخبئتهم للصحف القديمة، وتعلقهم بالبعيد، ورغبتهم في الخروج من مجاز. فها هو حويضر وقع أسيرًا للكلمات في كتب السحر التي تحرم قوانين الحصن الاطلاع عليها ونجيم حصل له أبوه بدافع محبته لأمه على كتب عن النجوم، بشير قرأ القصص العجائبية، وشنان جمع كراريس مكتوبة عن الثيران وتاريخ منازلتها والبنت الكبرى في آكلات النذور فنت وهي تمسك بالأوراق الصفراء القديمة التي عوضتها عن جوعها حتى بدأت بالتخلي عن حصتها القليلة من الطعام أصلًا لأخواتها رغم ضمور جسدها المستمر. والشاغي الذي قرأ اللوح المضيء عن حبيبين لم يفرق بينهما لا الحياة ولا الموت. يقابل كل هذه المقاومة التي تعطينا درسًا عن (أشكال المقاومة التي تخلق نفسها حسب السلطة المفروضة عليها) الحصن المنيع للسيد وخادمه ألماس، والفكرة بأن الناس في مجاز نوعان، نوع يقطن الحصن ونوع آخر يقطن خارج الحصن، حرموا الكتب، «لقد حرَّم ألْماس أن تكون ضمن صكوك المقايضة، إلاَّ أنَّ البعض كانوا يمرِّرون الكتب في خِراج حميرهم وجِمالهم التي يتأكَّدون أنَّها لن تُفتَّش بعيْنٍ دقيقة لقاء قَدَحٍ من خمْرة حويضر التي لا تشبهها خمرة» وقابلوا أحلام الناس بالتعنت والاستبداد: «لكنَّ سيِّد الحصن وألْماس قابلا حماسه الشديد ببرودٍ وجفاء، فلم يجدا في خروجه سببًا مُلحًّا. قال السيِّد بغضب: «فيمَ تفيدنا النجوم؟ نعلم عنها ما يكفينا»، وظلَّ نجيْم يحاول ويحاول حتى أرهقه الرفض».‏ واستغلا الناس بحشد كل شيء كرجال الدين في أكثر من مناسبة لتثبيت ما يريدانه ومثالًا على ذلك عندما أراد السيد التخلص من «الخشن» ثور شنان لكن لم يذهب من قبل ثور لجبل الغائب. «نصح ألماس سيد الحصن أن يتمهل ريثما يجوع الناس: جوع الناس علامة كافية لتغدو أي قصة مقنعة يا سيدي، مهما كانت مخترعة».

وما إن اندثرت هذه السلطة بثورتهم عليها حتى تجلت الحقيقة لنا فـ«لأشهرٍ ولسنوات ظلَّت الرّمَّة تقوِّض بأسنانها القويَّة أعمدة الحصن الراسخة حتى تهاوتْ وسقطت، وما إنْ سقط الحصن على كلِّ من فيه، مُطلقًا سحابة الغبار الهائلة، حتى انكشف العالم الخفيّ أمام أعيْن الناس القاطنين خارجه في شعاب الوادي المتفرِّقة. تلك الأعيْن الطافحة بالدهشة والذهول من هوْل ما رأت!‏»

تقول لنا هذه الرواية ما نخشاه إذن، أن هذه القرية لا يعيش الناس فيها انسجامًا مع ما يقمعهم كما تحرص السلطة على أن تجعلهم عليه. ومن خلال تطرف شخصيات المنسيين، يظهر لنا ما هو مشترك بيننا كبشر (الفضول والرغبة في الاتصال بالعالم).

أخيرًا في مدينة أفلاطون الفاضلة، ينبغي طرد الشعراء، مقلبي القلوب، وكذلك الحال في مملكة والد بثنة الثائبة فهو يريد الرأفة بينما يريد الحاكم القوة والشدة، فلنتأمل إذن مصير منسي آخر، لو أنه كان في مجاز. إنها إذن حياة متواشجة تلك التي على من يحلم أن يُنفى منها بعيدًا. كان في قرية مجاز أو في ما هو مجازٌ عنها.