لأجل ماذا؟

06 مارس 2024
06 مارس 2024

عامًا بعد عام، ويومًا بعد يوم؛ تتسع الدنيا أمام المرء وتضيق، فتارة يكون صافي الرؤية هادئ البال، وأخرى مشمئزا من الحياة ماجًّا إياها لما يمر به وعليه فيها. ولكن الحياة هي الحياة، فهي لا تتغير ولا تغير قوانينها وسننها لأي مخلوق كان، ولكن الإنسان وحده من يستطيع أن يغيّر نظرته للحياة وطريقة عيشه، بما يعتقده ويتبناه من عقائد ومبادئ في سبيل عبور بحرها بأقل الخسائر والأضرار الممكنة.

تتراقص أمام المرء الأفكار الكبيرة وهو يفكر في شيء شاسع وغير محدود كالحياة، وكل امرئ ينظر إليها من المنظار الذي انغمس فيه ووجدت روحه وذاته طمأنينتها واستقرارها فيه. فالتاجر يراها من منظور اقتصادي بحت، فيتعامل مع الناس على اعتبار أنهم فرص لنموه الاقتصادي التجاري، ووفقًا للمبادئ التي يتبناها سيكون تعامله معهم بما فيه من شدة ولين، وأمانة وتطفيف. والسياسي يراهم فرصة لاجتذابهم إلى حزبه، وتقوية نفسه بهم للحصول على كرسي برلماني أو دور قيادي؛ وهكذا دواليك. ولأن المرء الذي يتخذ سبيله (اقتصادي، سياسي، ثقافي..إلخ)، يتأثر بمن حوله بالضرورة؛ فإنه سيصل لا محالة للمفترقات التي تحدد جدوله في نهر الحياة الكبير. فليس جميع التجار أمناء، وليس كل السياسيين كذبة، وليس كل المثقفين أصحاب رسالة ومبدأ. لذلك سيصل المرء لمفترق الطريق التي تلزمه باختيار سبيله هو، لا سبيل غيره ؛ ولكن الإنسان بطبعه يتأثر ويؤثر بمن حوله، فما العمل إذن؟.

إن سؤال المرء نفسه ومحاسبته لذاته مبدأ ديني وإنساني عظيم في آن، فأن تتذكر إلى أين أنت ذاهب، وأين هو طريقك، ولأجل من، ولأجل ماذا تعيش؟ كلها أسئلة تحدد محطاتك في الطريق للوصول إلى وجهتك النهائية. والمحطة النهائية لا يلزم أن تكون شيئا يراه الجميع ويشهدون عليه ويصفقون له؛ بل قد تكون التخلص من عادة سيئة أو اكتساب عادة حسنة، تجعلك مطمئنا في حياتك مدركا لما تريد وترجو أن تكون أقل ثقلا من قيود المحيطين وما ينتظرونه منك. إن الصوابية -أي فعل الصواب في كل حين- تجعل المرء يقترب من الخير الإنساني أكثر فأكثر، ولكنه لن يقوى على الاستمرار في طريق الصوابية دون معاونة رفاق له يتبنون الطريق والمسلك ذاته؛ فالصوابية في الحياة تعني أن تتخلى عن أمور يقدسها الكثيرون، والتخلي عن المعتقدات المطاطية «الحق في الرد، الحق في العقاب، الحق في الكراهية» واستعمالاتها التي تشبه «بطاقة السماح بفعل ما تريد» لا بفعل «ما هو صواب» تجعل من الصوابية مبدأ عظيما. فأن تكون مسؤولا عن مؤسسة ما أو أن تكون مهمة ما موكلة إليك، وتتعلق هذه المهمة بالاختيار أو الشراء من الأفضل؛ فحينها يتجلى مفهوم الصوابية واقعا، فهل ستختار الأفضل؟ أم ستختار ما تحب وما تميل إليه؟ وهل ستشتري الأفضل جودة وسعرا؟ أم ستشتري من التاجر الذي تحب بغض النظر عن أسعاره وجودة ما يقدمه؟.

الإنسان يتأثر بطبعه بمن حوله، وبقدر ما فيه من قدرة على الصدق مع نفسه ومع الآخرين؛ تكون اختياراته ومنطلقاته في الحياة. فأن تدرك أن تشق طريقًا خاطئًا وتعترف بذلك وتغير مسارك، لهو من أصعب الأمور على الإطلاق. ولنضرب الثقافة مثالا على ذلك. درج كثير من الأدباء على اعتبار كتب بعينها هي مدار الثقافة ومنتهاها، وبما أن المحيط الثقافي مغلق في دائرة معينة كغيره؛ نجد أن من يختار قراءة كتب مختلفة عن تلك التي اختارتها جماعة المثقفين، نجده منبوذا يلحقه اللمز أينما ذهب وارتحل، فيقال إن فلانا شب عن الطوق. ولكن المثقف الحقيقي لو وقف مع نفسه وقفة صادقة، وتساءل «لأجل ماذا؟»، «لأجل من؟» أختار ما أختار وأفعل ما أفعل، لتخلص من رسن التقليد ولأصبح حرًا أمام نفسه أولًا وأمام الآخرين. إن الصوابية تعني أن نفعل الصواب حتى وإن لم نقتنع به أو لم يشعرنا بالراحة، أن تقول عن عدوك إنه محسن في الشأن الفلاني، وعن صديقك إنه مخطئ في الموقف الفلاني، ومتى كان الصواب مقياسًا لتعاملنا مع أنفسنا والآخرين؛ كنا أصدق وأقل ندما ونحن ننظر إلى الكيفية التي تعاملنا بها وإلى الحياة التي عشنا..

علاء الدين الدغيشي كاتب وشاعر عماني