كلام فنون.. قضية موسيقية: الغناء الحكيم

27 نوفمبر 2022
27 نوفمبر 2022

جميع أجناس الشعر العربي عبرت عنها الموسيقى بلغتها، ولكن معظم الغناء العربي غزل، وهو بالأصل جنس من أجناس الشعر يأتي صريحا أو عفيفا، وبما أن الموسيقى لغة تعبيرية تختلف أدواتها عن الشعر، فقد تكون استعارته من الشعر إن صح التقدير، وقد كان الجدل دائما بشأن أيهما كان له سبق البداية.

على كل حال، أفضل أنواع الغناء هو الغناء الحكيم، وهذا لا يعني من وجهة نظري التغني بأشعار الحكمة وما شابه ذلك كشرط لبلوغ الحكمة، فأدوات الموسيقى مختلفة عن الشعر، وعليها أن تكتشف حكمتها بواسطة أدواتها أصلا وليس نقلا أو استعارة، ولكنهما معا (الشعر والموسيقى) يسعيا إلى بلوغ الكمال الفني. واللحن الحكيم هو باختصار ما يتفق عليه المتلقون من حيث التأثير الجمالي والأخلاقي، ويسبب بينهم شراكة ذوقية وهوية ثقافية وفنية، وبناء عليه هو معيار جمالي وأثر ثقافي. غير إنه من الصعوبة بمكان وضع قواعد ثابتة لتحقيق ذلك الكمال بالتكرار، من هنا تبقى الفنون دائما محتفظة بأسرارها، لا تعطيها دفعة واحدة إلا للقليل من الموهوبين بفضل من الله سبحانه وتعالي الذي: {يُؤتي الحكمةَ مَن يشاءُ }. وقد يأتي لحن حكيم في غناء إنسان بدوي أو فلاح أو بحّار، أو مؤلف موسيقي يتمتع بأعلى درجات التعليم الموسيقي ومهاراتها.

وقديما فضّل بعض الفلاسفة في الغرب الغناء على الموسيقى الصرفة لصعوبة ضبط المعايير الإدراكية للألحان الصرفة، فعملوا على توجيه الموسيقى بما يتفق مع تصوراتهم غير الموسيقية، ولم تبلغ الموسيقى الأوروبية كمالها إلا عندما تحررت من تلك التصورات والقيود التي وصفها المترجم الدكتور فؤاد زكريا في مقدمة كتاب: الفيلسوف وفن الموسيقى لجوليوس بورتنوي، بأنها " ليست وليدة موقف جمالي أصيل بقدر ما كانت نتاجا لذهن نظري يحدد مجموعة من الغايات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية "، وهكذا أيضا كانت معظم تدخلات الفقهاء الإسلاميين في الشأن الموسيقي لا تنبع من رؤية فنية وجمالية، ولكن على الفنانين الاستمرار في سعيهم لبلوغ الحكمة والكمال في ألحانهم وأدائهم وأخلاقهم.

على كل حال لا أعتقد أن لدينا إمكانية لتحديد نشأة الغناء والموسيقى، ذلك أن قدم التحضر في عُمان والبلاد العربية قدم البداوة فيها أيضا، ولكن المرحلة الإسلامية الأولى في الحجاز لها أهمية كبرى في تاريخ الموسيقى العربية الإسلامية كما ذكرت في مقال سابق. وفي هذا السياق كتب الدكتور شوقي ضيف في كتابه: " الشعر والغناء في المدينة ومكة لعصر بني أمية "، بأن شعر الغزل في العصر الأموي" كان يُغنى فعلا، يغنيه المغنون والمغنيات في المدينة ويصحبون غنائهم بالضرب على الآلات الموسيقية، وكان موضوعه غالباً الحب وما يتصل به ". وقد ازدهر الغناء في المدينة بحيث إنها كما يقول الكاتب: " ظلت المركز الأول في الحجاز للغناء والمغنيين وتخريجهم، ولعل مما يدل على ذلك دلالة واضحة أن نجد خلفاء دمشق يطلبون مغنيهم غالبا من المدينة، بل إننا نجد مكة نفسها تطلب مغنيها من المدينة ". ومن المعلوم مكانة الشعر البارزة عند العرب قديماً وحديثاً، ولا غناء من غير شعر، وليس يكف المغنون عن الغناء إلا عندما يكف الشعراء عن ابتداع القصائد، فهذه قاعدة التخاوي الأبدية بين الشعر والغناء.

والواقع إن صناعة الألحان هي بنفس صعوبة صناعة الشعر، وأساسها الإلهام والكفاءة والخبرة في تدبر الجمل والعبارات اللحنية ومقاماتها وأوزانها وجعلها بالشكل والأسلوب الذي ينبغي على المطربين والعازفين أدائها. وفي سياق شغف الإنسان بجمال الصوت الحسن، صنع أجمل الآلات شكلا ومضمونا، وتفنن العازفون في العزف عليها، وارتقوا بمهاراتهم إلى درجات عالية من كمال الأداء الفني، وإتقان خلق التأثير النفسي للتراكيب النغمية اللحنية. ويروى عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم قوله: " إن من البيان لسحر، وإن من الشعر لحكمة "، والبيان والحكمة مبتغى كل فن وكل عمل إبداعي، وحكمة الموسيقى في كمال صياغة الألحان وأداء المغنيين أصحاب الأصوات الكاملة التي مكنها الله سبحانه وتعالي في بعض عباده بحكمة منه.

ليس للإنسان قدرة على استلطاف الحياة وجعلها مثيرة للاهتمام، إلا بواسطة الفنون جميعها والموسيقى والغناء عطر هذه الفنون إن جاز التعبير، لهذا لا يسعنا إلا السعي لجعلها واقعا تربويا وسلوكا ثقافيا للفرد والمجتمع والدولة.