كل شيء هادئ على الجبهة الغربية

17 ديسمبر 2022
17 ديسمبر 2022

"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية" (2022) هو فِيلم ألمانيٌّ أخرجه إدوارد بيرغر، وقد ويذكر إلى حد ما برائعة المخرج الأمريكي ستنالي كوبريك "دروب المجد" (1957). تتصدَّر مشاهد هذا الفِيلم الحربي الجديد وجوه وأسماء عديدة من أمثال دانيال برول وادين حسنوفيتش، وبالطبع، الشاب فيليكس كاميرر في ثياب "بول بومر" الفتى اليافع ذو العشرين عاماً، والذي سيلقى حتفه في الخنادق الفرنسية، بطريقة شبه انتحارية، في الوقت بدل الضائع من عُمر الحرب العالمية الأولى!

شُهد هذا الفِيلم لأول مرة خلال مهرجان تورونتو السينمائي الدولي في سبتمبر الماضي، وأصبح منذ شهر أكتوبر متاحاً للعرض على منصة نتفليكس. وقد جاء هذا العمل الألماني الضخم كاقتباس سينمائي مشوِّق لرواية ألمانية لا تقل أهمية، إذ تُعد اليوم من كلاسيكيات "أدب الحرب" وهي الرواية المصدَّرة بذات العنوان للروائي الألماني إريك ماريا ريمارك. فبالرغم من سمعته ذات النزعة العسكرية وروحه الحزبية إلا أن ريمارك كان قد نشر روايته كمرافعة أدبية ضد فكرة الحرب عموماً، وذلك بعد عقد كامل تقريباً على النهاية الفظيعة للحرب العالمية الأولى، زمن الرواية وميدانها، تلك الحرب التي ستخيّب بعد عشرين عاماً تقريباً حدسَ كل من وصفها بأنها "الحرب التي ستنهي كل الحروب" وذلك بعد اشتعال الجغرافيا الأوروبية من جديد، سماءً وماءً ويابسة، إثر الصعود النازي الكاسح في برلين، وتحديداً بعد أول قذيفة مدفعية تخترق صمت السلام الهش باتجاه مدينة غدانسك البولندية، في الأول من سبتمبر عام 1939. وفي هذا التوقيت كان لرواية ريمارك أثر بالغ في إفشاء التناقضات السياسية بشأن الحرب وتثبيط الروح الألمانية الوثابة للقتال من أجل نفض الإهانة التاريخية بعد معاهدة فرساي التي جاءت كنتيجة سياسية مريرة لهزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، فما كان من الفوهرر إلا أن حارب الرواية وأسقط عن راويها جنسيته الألمانية.

نستطيع أن ندخل إلى باحة الفِيلم، في الجبهة الغربية، عبر مقاربة موحشة بين الكيد البشري وبراءة الطبيعة، إذ ينحسر الفجر الكُحلي عن الغابات شيئاً فشيئاً لتكشف بدايات النور عن جثث منذورة للصقيع الذي يحفظها بدوره من العفن والتحلل لوقت أطول، مفسحاً لنا الرؤية والوقت حتى نتخيل شبح الموت المُجَمَّد في درجات حرارة تحت الصفر، بعد انهيار الميدان. أما بقع الدم التي تلطخ المشهد الثلجي فهي لا تعكّر نقاء الثلج في ذلك الجمود القلق والمأساوي بقدر ما تجعله وجهاً لحقيقة أخرى وأثراً شاهداً على ما كان يدور على الجبهة الغربية. فقبل ساعات أو ربما أيام، لم يكن هذا المشهد المتجمد إلا وحلاً دموياً تحت المطر الكثيف ولم يكن اللحم البشري الحي إلا وقوداً لدفء الخنادق.

لم يقم الفِيلم على اختزال حربٍ قادت 17 مليون آدمي إلى الموت في غضون أربع سنوات فقط، فالحرب برمتها هي الاختزال الأكثر فداحة في التاريخ، وليس للفن أن يكرر الكارثة مرتين. ولكن الفِيلم يمكِّننا من أن نرى، خلال ساعتين ونصف، كيف مثَّلت حرب الخنادق أبشع صور وجرائم الغرور الإمبراطوري والشهوات العسكرية التي تأتي بدعوى "إنقاذ شرف الوطن"، هذه الدعوى التي سرعان ما تسري ويروَّج لها على ألسنة الأساتذة والمربين، كالأستاذ الذي ظلَّ يتحف بول ورفاقه بخطبه الوطنية الرنانة التي تُخيّل للفتية المراهقين أن الحرب ما هي إلا رحلة مدرسية صوب الحدود الفرنسية. وتتجلى بلادة المخيلة العسكرية أثناء الحرب بإهمالها المهين لأدق التفاصيل الشخصية الجارحة، كما حدث منذ اللحظة الأولى مع بول المتحمس للزي العسكري؛ وذلك عندما أُعطي بدلة مستعملة نسي أحدهم أن ينزع منها اسم الجندي الذي كان يرتديها قبل أن يموت على الجبهة أو ربما تحتها.

لقد أسلمت الحرب أرواح الجنود إلى لعبة الحظ التي أصبحوا مؤمنين بها إيماناً أعمى إلى درجة الثقة المجنونة في النجاة المجانية، وكأن الحظ ما هو إلا الحد الفاصل بين الحياة والموت، كما يعبر ريمارك في روايته. كانت الجبهة الغربية ميداناً لقمار الأرواح، فبعد أن وقف الألمان في الأسابيع الأولى من الحرب على مقربة 18 ميلاً من باريس، تمكن الفرنسيون المنهكون من إعادة حشد قواهم وردع الهجوم الألماني الذي تقهقر، محولين مسار المعارك إلى وضعية الخنادق التقليدية التي استمرت لمدة عامين، حيث لم يشهد خط الجبهة إزاحة حقيقية إلا بمقدار بضع مئات من الأمتار التي كان الاستيلاء عليها يكلف في كل مرة أرواح المئات من الرجال. وهنا يمكننا أن نتخيل كيف أن الحرب ما هي إلا الحماقة الأبلغ في تاريخ البشرية. وهنا أيضاً سنجد الإجابة المثالية على السؤال المُحيِّر: لم كل شيء هادئ على الجبهة الغربية؟ ببساطة: لأن الجميع هناك موتى...