قطار وليد الشعيلي الذي خرج عن السكة

08 سبتمبر 2025
08 سبتمبر 2025

ماذا يعني أن يخترق كاتب الواقع ويبني نصوصه على رؤيته له؟ إنه قطار وليد الشعيلي الذي خرج عن السكة، فأحدث ارتطاما لا متخيلا بُني من الواقع وأحداثه. في كتابه (قطار خرج عن السكة) لوليد الشعيلي الصادر عن الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، و(الآن ناشرون وموزعون) عام 2022 يرصد الكاتب فيه الواقع ويصوره بكتابة أدبية تشتغل على التخييل والتصادم بين الفكرة والنص.

جاء الكتاب في نصوصه على صورة محطات يقف القطار عندها مقدما صورة حية للواقع، طارحا أسئلة تمزج بين الذات والآخر والواقع والحب والحزن. إنها موضوعات عامة يطرقها الكاتب، قد تبدو بسيطة في فكرتها لكن التناول والعرض يقدمان رؤية لما وراء هذا الواقع، نقرأ مثل ذلك في عبارته: «كان يوما ثقيلا بعد الإجازة حين غادر العمل ودخل البيت، وجد مجموعة من شعراء الجاهلية يشربون نبيذا قديما تحت البيذامة، أغلق الباب وذهب للداخل دون أن يكلم أحدا منهم، نظر من نافذة الصالة إليهم لم يجد غير سنواته القادمة». (ص29) هكذا تعبّر الكلمة عن الواقع والمتخيل، صورتان تتصارعان في ذهن كاتب ينظر إلى الحياة كونها سحابة عابرة.

كان الواقع في رؤيته له مرصعا بالمرض/كورونا وأخبار الناس وعاداتهم، والنخيل والحلاقين، والراحلين عنا، والحياة اليومية التي يعيشها الكاتب متنقلاً من مشهد إلى آخر. كل ذلك يمكن معها أن نعد الكتاب بحثا في الحياة الاجتماعية بكتابة أدبية خالصة.

من يقرأ قطار وليد الشعيلي يجد نفسه أمام محطات فرح وحزن، ابتهاج وتشاؤم، واقع وخوف من المجهول، كما سيجد متسعا لطرح الأسئلة فيما وراء الفكرة التي يتناولها، ألا يُعبّر كل ذلك عن محطات تنظر القطار ليرسمها في لوحة جديدة. إذن هذه هي نظرة الشعيلي لتجاربه في الواقع؛ لقد عبّر عنها بصور مختلفة، كل صورة تعكس أسلوبا مختلفا في التعبير، تتكرّر الأسئلة التي يطرحها في موضوعاته، فنجد أنها أسئلة كونية تبحث عن الحياة أكثر مما تبحث عن إجابة، يقول مثلاً: «لو لم يتزوج أبي أمي: أنا من؟ في أي عدم؟ أو في أي زمن سأكون؟ تحت أي شجرة فيفاي أتذكر الروائح؟ هل سأظهر في شكل وبيانات أخرى؟ لو أحد أجدادي دهسته شاحنة غاضبة.. أو لاندروفر قديم قرب سوق السمك، ترى في روح أي حيوان آخر سأكون؟ يا لها من لعبة يا نصيب». (ص 54)

كما نجده يفتّش في أوراق المجهول والغامض بحثا عن بقعة ضوء تقوده إلى الحرية لكن الأسئلة تزيد الموقف حيرة وشكّاً، مثل: «أحتفل بعيد ميلادي في المرايا البائسة مواصلا اختفاءاتي، أشعل بداخلي شموع الماضي التي ذابت مبكرا، ونوافير الندم المتفجرة في المصارين، أين أنا الآن في هذا الظلام من أيامي؟ في هذه اللحظة من اللهب؟ أين أحلام الغرف الضيقة ومناطيد كل الروائح؟ من يرشدني إلي؟ لا المجمعات الصحية، ولا دكاكين البانيان، ولا شوارع بانكوك، ولا مسرح مدرسة صحار الثانوية، ولا قصائد المعري، ولا أغاني فيروز وعبد الحليم، ولا سينما صحار، ولا المحطات الأخيرة، ولا غربان الباطنة، ولا نساء أعمال نجيب محفوظ، ولا المقهى الغربي أيام الضحكة الطويلة، ولا رذاذ الحنان، ولا النداءات الأخيرة في مطار مسقط، ولا الأرقام السرية لمبنى صلان، ولا مزارع المشاتل في طريق الصناعية، ولا ألحان بليغ حمدي العبقرية.. أرشديني إلي يا ذكرياتي ويا ملامحي ويا جروحي ويا كلماتي.. أين أنا اللحظة؟». (ص52)

تميل اللغة في استعمالاتها إلى الوصف الطريف أو الحزين، كثيراً ما يوازن وليد بين الاستعمالين كما يتنقل بلغته بين الماضي والحاضر، فهو كثير العودة إلى الوراء باحثا عن طفولته وأمكنته القديمة التي لم ينس شيئا منها ثم يقوم بمقارنتها بالحضر من تبدّل حاله وتبدّل الأمكنة ورحيل الشخصيات كل ذلك يجعلنا أمام ذاكرة متهدّمة يحاول ترميمها داخل نصوصه، في نصه (أنا والهروب) ما يجعل الذاكرة ذات شجن، فالماضي معادل الحاضر، الحاضر الذي يبدو أنه لم يعوّض الشعيلي عن ذاكرته وطفولته، فنجده يطوف في نصه على الحارة واللعب والأمكنة المغروسة في محيط ذاكرته، يقول: «في الطفولة كنا نلعب لعبة اسمها «فكّورة»، تشبه لعبة الغميضة أو الاختباء لكن الذين يبحثون عنك في الفكورة لا يمسكونك، إنما بمجرد رؤيتك يشيرون إليك صارخين: فكورة فلان. كنت دوما أجري وأختبئ فوق السطح كقط ضعيف، مع الوقت اكتشف الأطفال اختبائي الدائم، لم يتغير شيء إلى اليوم، ما زلت أختبئ فوق السطح وأماكن أخرى، في لعبة أكبر وأكثر عددا وحلكة، أكثر رعبا وضعفا، لكن هذه المرة لا يمكن للذين يبحثون عني الاقتحام حتى في لحظات الوداع. أما عن الدرس المستفاد من هذا التذكار البعيد فإنه يمكن أحيانا الاستفادة من مرحلة الطفولة مع إقحام تغييرات طفيفة. اليوم حين يصادفني شخص قديم في الشارع، ويمسكني، أشعر كأنه يقول لي: فكورة، وأنا أقول بداخلي: كيف عرفت مخبئي أيها الوغد؟». (ص 84)

تأخذ اللغة أحيانا منحى السردية في التعبير لا سيما عندما يصبح للحكي تعبير وذاكرة، نجد الشعيلي الحكّاء والسارد يصنع من ذاكرته لغة، ومن مكانه تاريخا يكشف عنه، نقرأ مثلاً: «تقول لي عمّوتي مريم: لماذا لا تزورني في مقبرة جاوان؟ أليس بيتكم الجديد قريبا منها؟ هل لا تزال كما أنت قاسيا ولا تحب الناس ولا تخالط أحدا؟

سوف أزورك حين أموت رغم أنني حينها سأزداد قسوة ككل الموتى، ورغم أنه لا يهم مكان الدفن، لكن أظنهم سيرمون بي هنا قربك وقرب أبي.

تعال ولا تتأخر كثيرا، سنترافق لزيارة بيت آمنة تريكة عامر، إنه قريب من المقبرة لن أتأخر، لا بد يوما أن يكون لي قبر». (ص64)

في هذا الكتاب نجد وليد الشعيلي يقتنص الفكرة الواقعية ثم يتوسع في التعبير عنها مستفيضا في الكلام عنها، ومتنقلا بين أفكارها الهامشية، هذا ما نجده في نصوصه عن كورونا، وعن القمر العملاق وطقوس الشواء العُماني والإجازة ورمضان وغيرها، إنه يتطرق في نصوصه إلى اليومي والمشاهد البسيطة، فهو لا يتحرج في الكتابة عن كل ما يخطر في باله.

كما نجده يتوسع في الخيال الذي يحاول أن يشكل عباراته منه، فللخيال قيمة تتصارع مع الواقعي البسيط لإيجاد لحظات قابعة في الذاكرة، يقول في نص (بمناسبة كسوف الشمس): «ترى ما الذي يجعل القمر يأتي بين الشمس والأرض منحشرا بينهما الیتیم؟ هل سرقت مصابيح الشوارع منه الطريق الليلي وضحكات الفاتنات والمواعيد والأحلام وبات قلب المساء ينبض تحت إضاءات أقل تشتيتا؟». (ص40) ويقول في نص بعنوان (أنا والعدم): «بعد الهزة الأرضية في سمائل، توارى جبل صغير خلف قصيدة لسيف الرحبي قرب قرية سرور، ونظر باستغراب لكل سفن العدم الماخرة عباب الوادي!». (ص54)

إننا أمام نصوص أدبية تتناول الواقع بكل تفاصيله، لقد استجمع الكاتب شتات ذاكرته واستعاد معها المكان والطفولة والحزن والحب والوجع، إنها محطات في ذاكرة مهمة ترصد تفاصيل المكان والإنسان ستظل تروي طويلاً عن هذه التفاصيل التي لن تنسى أبداً. 

خالد المعمري كاتب عُماني