قسم المندوبين «2»

07 فبراير 2024
دفتر مذيع
07 فبراير 2024

أكملُ حديثي عن قسم المندوبين بأخبار الإذاعة، وأخصصه اليوم لبعض الذكريات، أو الورطات التي ما زالت في الذاكرة. فبما أن طبيعة العمل كما تناولتُها سابقًا، فوارد الوقوع في بعض المواقف الصعبة أو الحرجة، أقلها التدافع الذي يحدث من المصورين والصحفيين تجاه المسؤول الذي نخطط أن يخصنا بتصريح صحفي.. والنوم داخل السيارة أحيانا. بل وحدث في عام 1983م، أن استسلمت للنوم من شدة التعب في كراسي قاعة المطار لأصحو فأكتشف أنني كنت نائما وسط صالة تعجّ بالمسؤولين والوفود الشبابية التي استضافتها الحكومة للاحتفال بعام الشبيبة، وأنا في وضعٍ أشبه ما يكون بأولئك الذين ينامون في أي مكان في قاعات «الترانزيت» بانتظار رحلة بعيدة، إلا أنني لا أحمل حقائب، عدا احتضاني لدفتر ملاحظات، ومسجلي الصغير.

وعندما صرت مزدوج المهنة (مندوبًا ومذيعًا)، صدف أكثر من مرة أن يُطلب مني التعليق على حدثٍ ما لعدم وجود مذيع.. ففي دورة كأس الخليج السابعة، الأولى في عُمان في مارس 1984م، عندما توجهت لفندق الأنتركونتيننتال للعشاء مع ضيوف الدورة، فقابلني عند المدخل الأستاذ سالم السيابي (أبو سعيد) الذي أصبح وكيلا للإعلام للإذاعة والتلفزيون، فيأمرني بتقديم الحفل الفني على المسرح بحديقة الفندق وأن الحفل سيبدأ بعد دقائق، والمذيع المكلف لم يحضر.. شعرت بارتباك شديد، وتحججت بأن فوق رأسي كمّة، ولا يصلح إلا بعمامة. فإذا به ينزع عمامته من رأسه ويريد أن يضعها على رأسي، فزعمت أن هناك عمامة نسيتها في السيارة ورجعت ولبست الشماغ.. كان ذلك أول حفل أقدمه على خشبة مسرح.. تم مؤخرًا تداول مقاطع من هذا الحفل في وسائل التواصل الاجتماعي..

وفي موقف آخر طُلب مني أن أكون عرّيف حفل افتتاح أحد الفنادق المشهورة في الخوير، بينما كانت المهمة للتغطية الإخبارية. وطبيعي أن أصبح في نهايته نجم المناسبة؛ لأن كل العيون كانت تتجه نحوي، فالبعض يهنئني، والسفير الكويتي يعبّر لي عن إعجابه بانتقائي للكلمات ويشجعني على المواصلة.. إنجاز عابر، ولكنه مهم بالنسبة لي في تلك الفترة. غير أن المشكلة عند الخروج من الفندق، فكل المدعوين يتجهون إلى سياراتهم الفارهة، بينما كنت يومها وبسبب عطل في سيارتي البسيطة أصلا، قد استعرت من الأهل شاحنة صغيرة قديمة متهالكة، (قرمبع) لا يليق الظهور بها في مهمة كهذه، أوقفتُها على بعد بنايتين من موقع الحفل (عن الفشلة).. انتظرنا مغادرة الجميع لنتسلل أنا وزميلي حسين الشالواني ونسلك الشوارع الداخلية إلى الإذاعة..

من المهمات التي أسعدتني وما زلت أتذكرها، مناسبة تدشين أولى الرحلات الجوية الداخلية للناقل الوطني، أو ربما كان يسمى الطيران المدني عام 1984م. فبعد دوام الليل ومبيتي في الأخبار، كان عليّ أن أكون في المطار عند الساعة السادسة لتغطية هذه المناسبة، والمطلوب مني أن أشهد الحدث في المطار، وبعد أن تحلّق الطائرة أعود لصياغة الخبر وتفريغ التصريح الصحفي إن توفر. ولكن السيد سامي بن حمد بن حمود رحمه الله، وكيل الطيران المدني (لست متيقنا من المسمى)، والذي اشتهر برئاسته ودعمه لنادي فنجاء، فاجأني بما كنت أتمناه في تلك اللحظة، عندما قال لي: يجب أن تأتي معنا، لتكتب الخبر مفصلا.. لم أتردد، ويبدو أنني أمليت على المحرر المناوب خبرا قصيرا لنشرة السابعة، وحلقت معهم.. طائرة صغيرة بمروحتين، سعة اثني عشر راكبًا.. طرنا إلى المحطة الأبعد (خصب) بمحافظة مسندم، ومنها عائدين إلى دبا ثم البريمي فصور. وفي كل محطة ننزل ويستقبلنا الوالي، لتناول القهوة في مكتبه أو في المطار ونستأنف الطيران.. معظم المطارات ذات طبيعة عسكرية، وبعضها مجرد مدارج ترابية.. معدل قيمة التذاكر المقررة- إن لم تخني الذاكرة- اثنا عشر ريالًا ذهابًا.. الأجواء داخل الطائرة حميمة ومرحة لصغر المكان، وتبادل الأحاديث والمزاح مع القبطان أحيانا، وبعض الحديث عن الآمال بأن تسهل هذه الخطوة على المواطن، إمكانية أن يتوجه إلى مسقط لإنجاز معاملاته والعودة مساء، والإسهام المرتجى من هذه الخطوة في النشاط الاقتصادي والسياحي والاجتماعي.. توفرت في الرحلة العصائر وبعض الخفائف التي جلبت في حاوية مبردة (cool box).. لا أتوقع أن بها دورة مياه... مشهد القرى والطبيعة العمانية من هذا الارتفاع المتوسط رائع آسر.. كانت فرحتي كبيرة عندما رأيت قريتي (المضيبي) والقرى المجاورة من السماء، كُتلًا خضراء متوزعة في الصحراء. أغبط الطيور لقدرتها على مشاهدة المدن من هذه الزوايا، فنحن كائنات أرضية نرى الأشياء أمامنا بحواجزها الطبيعية والصناعية، أما الطيور فتتمتع بـ(بعد النظر). بقيت الصورة الجوية لقريتي مطبوعة في ذهني إلى اليوم.. عند العودة، من صور إلى مسقط قرر المسؤولون النزول في مدرج رأس الحد، الذي ربما لم تنزل فيه طائرة منذ الحرب العالمية الثانية.. عند النزول كانت سيارة أحد الصيادين تجتاز المدرج بالعرض، أحدثت لدينا بعض القلق. وهنا لم نخرج من الطائرة، لعدم وجود من ينتظرنا أو يستقبلنا.. لا أدري إن كان قرار النزول مدروسا أو فيه مغامرة.. عدتُ إلى البيت حوالي الثالثة بعد الظهر، وقد انشغل عليّ أهلي لغيابي منذ الليلة الفائتة؛ لأشاكس والدي ببعض المزاح وأقول له: (والله سويت شوية جولة بين مسندم والبريمي وصور).. طبعا لا يتوقع شيئا كهذا فعلّق: (آها، يستوى كان فرّيت بطايرة) لأزيده دهشة بأنها نعم كانت بالطائرة.. كنت أحب إدهاشه بكل جديد ومدى تغير العالم عن الزمن الذي عاشه هو.

وفي مناسبة أخرى قبل وقت قصير من انطلاق سباقات واستعراضات الخيل في العاديات بالسيب، على شرف عدد كبير من الشخصيات المشاركة في اجتماع دولي وزاري، وجدت نفسي معلِقًا داخليًا للسباق- وقد اشتهر وقتها بهذا النوع من التعليق الزميل الشيخ عبدالله بن شوين الحوسني (وكيل الوزارة لاحقا) -.. وعلى غير خلفية عن هذه الرياضة، ولكن بتزويد المنظمين لي بالمعلومات أولا بأول أخذت أصف السباق وتفاصيله بحماس، واستعرض الرهانات على أي خيل ستكسب الجولة، وأتفاعل مع اللحظات الأخيرة لخط النهاية...إلخ..

أعترف أنني كنت ما أزال أحمل روح المراهق الفوضوي أحيانًا، ويمكن أن أقوم ببعض المقالب، مثلما فعلت ذلك في أحد اجتماعات وزراء الخارجية المنعقد في قصر البستان، تمهيدًا للقمة الخليجية، عندما قمت بتعبئة حقيبة زميلي المصور الفوتوغرافي -أثناء دخوله القاعة لالتقاط الصور- بالأكواب والأطباق والملاعق والشوك الفاخرة، وأنا أعلم أنه سيعود لإرجاع كاميرته وبطارياته داخل الحقيبة وسيرى الوضع، ويقع في حرج محاولة إخراجها قطعة قطعة وهو يتلفت في كل الاتجاهات حتى لا يُتهم بمحاولة السرقة، ولا يمكن أصلا الخروج بها هكذا، خاصة مع وجود الأجهزة الكاشفة، فجلست بجانبه وكأني أساعده وأشكل له ساترا حتى يفرغها، وهو يرمقني ويقول: (الله يصرف بليسك، ما حد غيرك مسونها).

أما اللحظة التي لا تنسى، فكانت بعد أن حضر السلطان قابوس -طيب الله ثراه- عرضا للخيل في ميدان العاديات على شرف ضيفه الملك خوان كارلوس ملك إسبانيا، حيث خططنا أنا والمصور الفوتوغرافي المخضرم عبدالله الخروصي أن نضع سيارتنا في نهاية المواقف، لنكون أول الخارجين من هنا والواصلين للفعالية التالية.. يبدو أن جلالته فضّل الانفراد بضيفه بدون موكب رسمي ليأخذه بسيارته لمنطقة الاسطبلات، بينما أنا وصديقي نخترق شوارع الحارة الداخلية (مساكن الموظفين) بين الميدان والإسطبلات، لنسلك طريقا مختصرا، وعند تقاطع ضيق نفاجأ ببوق سيارة جلالته، محذرا بأننا نعترض طريقه!! سيطر علينا الخوف والارتباك، فما كان منا إلا أن نهرب إلى الأمام ونحشر سيارتنا في أحد أزقة الحارة، ولم نغادر مكاننا إلا بعد خروج آخر مشارك، وقد فشلت خطتنا فأصبحنا آخر الواصلين للفعالية.