قراءة في قصيدة «أسيدة العواصم» لعلي الرواحي

16 أكتوبر 2023
16 أكتوبر 2023

قبل اثنين وعشرين عاما من اليوم صدر كتاب (محمد الدرّة: مختارات شعرية)، جمع وإعداد وتصنيف عبدالله بن أحمد الحارثي، الذي تناول في طيّاته (144) قصيدة شعرية عن حادثة مقتل الطفل محمد الدرة والانتفاضة الفلسطينية الحاصلة في الأقصى آنذاك. جاء الكتاب مُقَسّما إلى أربعة أبواب، وهي، الباب الأول: للشعر العربي الفصيح المقفى، والباب الثاني للشعر العربي الفصيح المرسل، والباب الثالث للشعر العربي الشعبي، والباب الرابع لمجموعة من أشعار الزجل والنصوص المتميزة. شارك في الكتاب شعراء من عمان والخليج والوطن العربي قدّموا لوحات شعرية عن القضية الفلسطينية وعن حادثة مقتل الطفل محمد الدرة.

بذلك يكون الكتاب توثيقا مهما لحادثة تاريخية هزّت وجدان الإنسان العربي قبل غيره، ومرجعية شعرية لفترة زمنية شهدت على الواقعة الأليمة.

يُطلُّ علينا الشاعر علي بن سالم الرواحي ضمن الشعراء الذين شاركوا في الكتاب بقصيدة شعرية بعنوان (أسيدة العواصم) وهي قصيدة مكتنزة بالدلالات الحزينة من جهة، وبالشوق واللهفة إلى المكان الفلسطيني من جهة أخرى مستخدما لغة شفافة آسرة تجمع الجمال والإشارة معا.

يُقدّم علي الرواحي قصيدته بإشارة أولى للقدس مانحا إياها من خلال العنوان عاطفة كبرى تشير إلى المكان الذي يسكن القلب، مُشيرا إليها بلفظ المفرد في مقارنة الجمع، إنها سيدة العواصم جميعا، إنها المكان الذي يحتل الذاكرة والقلب، لكنّ الإهداء الذي يلي العنوان يُحيل على الانطفاء بعد السطوع، والأفول بعد البزوغ. إنّ عبارة «للفجر المشنوق: ورد يذبل في عينيّ»، أكثر من تأويل، وأكثر من زاوية ننطلق منها إلى القصيدة، إنها إطلالة على وجع يمتدُّ في وجه الإنسان، ويأس يبسط جناحيه في الذاكرة؛ فالفجر قد شُنق، والوردُ ذبل، ولا مكان للألوان في عالم يُهيمنُ عليه الرصاص؛ لذا يطالعنا الشاعر في البيت الأول بعد عتبات قصيدته بلفظتي (وجهك الباكي)، و(فيحضنه الرحيل) دلالة على استمرار الحزن والغياب عن المشهد المأساوي الذي نجري خلفه قاطعين المسافات لعلّنا نُدرك شيئا من ماضيه الآفل مع الزمن.

في سبعة عشر بيتا شعريا تتزاحم دلالات الفعل المضارع مُشكّلة صورة مستمرة لهذا الوجع، وهذا النزف، إنّ الحاضر بما تمثّله دلالات الفعل المضارع قائم على الحسرة والسقوط والخسارة، لذا تتشّكل الدلالات في القصيدة من ثمانية وعشرين فعلا مضارعا دالّا على قيم الوجع والألم والشوق إلى الماضي والتيه والاغتراب والانكسار والخطيئة والعفو. لنا أن نتلمّس تلك القيم من الأفعال الآتية: (ترتّل، يحضنُ، تقول، يبكي، ترتعش، تلفع، يشتعل، ترافق، تزحم، تهدرُ، تعصف، تذبح، يطول، أطوّي، يطوي، ينتحر، أهدهد، تستعر، أحبُّ، أمرّغ، تداعب، تلد، يأتي، تحاصر، يذبل، تطرد، يمزّق، يسحب).

تتوزع الأفعال السابقة في بناء القصيدة مُشكّلة دلالات تقوم عليها، ويمكن إجمالها في الآتي:

أولا: دلالات الشوق واللهفة للمكانة التي تتربّع عليها القدس في النفس الإنسانية، خاصة عند العرب والمسلمين، فهي مسرى النبي وموطن الأنبياء، فجاءت دلالات (النخيل، أوردتي، الخلايا، صلاة)، مشيرة إلى الهُوية والاقتران بالمكان، كما جاءت دلالات (يسوع، والبتول)، مشيرة إلى الارتباط الديني والمقدّس بالمكان أيضا. إنها انطلاقة تعبيرية دالّة على شدة الشوق لذلك المكان:

ترتّلُ وجهَكَ الباكي النخيلُ فيحضُنُهُ بأوردتي الرّحيلُ

أسيّدة العواصمِ في الخلايا صلاةٌ غيرُ وجهِكِ لا تقولُ

رأيتُ يسوعَ في عينيكِ يبكي وفي شفتيكِ ترتعشُ البتولُ

ثانيا: دلالات التيه والاغتراب التي تعيشها القصيدة مستحضرةً السقوط، والبحث عن أمل. ولعل هذه الدلالة أكثر عمقا واشتغالا في فنيات القصيدة من غيرها، إذ تُعبّر عن الروح الداخلية التي تنطلق من الشاعر راسمة حدود الكلام ومقتضياته وفنياته. وهنا نجد القصيدة تبحث في الدلالات الداخلية مستحضرة مفردات مثل: (مشرّد الخطوات، وشاح حزن، خيام البدو ثكلى، تذبحني الطلول، أهدهدُ حلما) للدلالة على رحلة التيه إلى المكان المقصود في القصيدة، فتشكّل من تلك الدلالات آهات النفس وعذاباتها نتيجة البُعد والفراق، يقول:

فجئتُ مُشرَّدَ الخُطوات وحدي على فَرَسٍ قوائمه الذهولُ

تلفّعني السماءُ وشاحَ حزنٍ وفي رئتي يشتعلُ الرسولُ

ترافقني خيامُ البدو ثكلى وتزحمُني مفاعلتن فعولُ

دماءُ الشرقِ تهدرُ في وريدي وتعصفُ بي وتذبحني الطلولُ

أتيتُكِ والجراحُ ظلالُ خطوي ودونكِ شارعٌ دوني يطولُ

أُطَوّي الشارعَ المعتوهَ خفرا فيطويني وينتحرُ الوصولُ

أُهدهدُ في زوايا الروحِ حُلما وتحت الحلمِ تستعرُ الفصولُ

ثالثا: دلالات الخطيئة وطلب الغفران، ولعلّ فيها عتابا إلى الحاضر الذي يعيشه الشاعر، بأن تكون القدس حاضرة في النفس لا يتزعزع ثباتها، لذا نجده يحاصر نفسه بالذنب الداخلي وطلب الصفح مستخدما تكرار صيغ الاستفهام في إشارة إلى الحب والشوق بعد طول انتظار:

أُحبّكِ هل أُمرّغُ فيكِ وجهي؟ وهل صدري تُداعبُه الوحولُ؟

وهل تلدُ الدوالي في جيوبي؟ وهل يأتي الزمانُ المستحيلُ؟

تُحاصرُني الخطيئةُ في دمائي فهل للصفح سيدتي هطولُ؟

غرستُ الخنجرَ المحموم سلا بكفي.. فاستبدّ بها الأفولُ

فهذا الفجرُ يذبلُ في يميني وتطردني الجداولُ والحقولُ

فإنْ أبصرتَ أشلاءً تهاوى فذاك أنا يُمزّقُني الرحيلُ

أتيتُ الآن يسحبُني اعترافي أنا الجلادُ والدمُ والقتيلُ

إنّ القصيدة في مضمونها قائمة على الالتزام بقضية الانتماء المكاني المقدس، وقضية فلسطين الكبرى، إلا أنّ الشاعر لم يفتح المجال لقصيدته بالسقوط في فخ المباشرة، فقد حاول بالتعبير الفني إيصال فكرته التي يتحدث عنها، متجاوزا عثرات الكلام الخطابي المباشر، الذي عادة -في مثل هذه الموضوعات- تهيمن فيه اللغة الخطابية التي تعمل على إثارة النفس، والاستئثار بالعاطفة أكثر من التركيز على الجماليات، لكنّ علي الرواحي قدّم قصيدته بصورة سلسة تتناسب مع اللغة التي عبّر عنها.

إنّ في النص انتماء، وهُوية، وارتباطا يقدّمها للمتلقي، انتماء للمكان، وهوية دينية، ومرجعية تاريخية، وارتباطا بالمقدّس، لم يتغافله الشاعر في كتابته الفنية عن القضايا الإنسانية. وهنا تبرز صورة القدس، كونها سيدة للعواصم، ولوحة شعرية يتجاذب الشاعر صورها الشعرية على مدى الزمن.