في مديح صانع البنادق

03 فبراير 2024
03 فبراير 2024

أينما يمَّمت وجهك ثمة حروب واضطرابات ودمار وتشريد وفاقة ومسغبة وعدم استقرار ومرجع ذلك يعود إلى غطرسة الإنسان وصلفه وإحساسه بالفوقية ضد أخيه الإنسان بسبب مُمكِّناته التي تدفعه نحو الهيمنة والاستكبار.

حال الإنسان منذ سكن الأرض واستوطنها سعيه نحو فرض السيطرة والتحكم بالضعيف موظِّفًا قدراته في اختراع آلة الحرب وتطويرها.

كانوا في «الرزحات» يتغنّون فخرًا بما تمتلكه القبيلة من عِدّة وعتاد حرب وإن كان تقليديًّا وبقوتها وسطوتها وبدور ذلك في بقاء السيادة وضمان التفوق النوعي.. جاء في إحداها: يا صانع البنادق ربك عطاك الجنة كم من صبيِ راقد من مرقده وشلّنه.

أجزم أن الشاعر الذي كتب هذا البيت وكان يُردَّدُ بحماس على ألسنة «الرزّافة» في الأعياد والمناسبات لم يكن ليدعو لمن يصنع البنادق بدخول الجنة لو امتد به العُمر للقرن الحالي وشهد ما يشهده العالم الآن من عمليات قتل وإبادة للحرث والنسل بسبب ما وصلت إليه تقنية صناعة الأسلحة وحجم الدمار القادرة على إحداثه.

ورغم ذلك سأكون حسَن الظن وأقول إن الشاعر المزهو حينها بقبيلته لم يكن يتمنى أن تقض قعقعة البندقية التي لا يكاد يخلو منها بيت من بيوت العمانيين وأزيز الرصاص منام طفل أو ترويع عجوز أو إبادة جماعة إنما كان ينشد «فقط» الافتخار بأُهبة القبيلة ويقظتها واستعدادها لدحر مناوئتها بسبب خلاف قديم حول ملكية أرض أو فلج أو بئر ماء أو مزرعة تثمر عامًا ويُمرضُها «المتق» ثلاثة أعوام.

كاتب الأبيات لم يخطر على باله مُطلقًا أن تتطور البندقية التي وفرتها له دول ذات نوايا خبيثة من «كَنَدَ» أو «صُمع» أو «بو عشر» أو غيرها يوما لتكون آليةً كالكلاشينكوف ثم تتطور مع الزمن فتخرج على صورة قنابل مُدمِّرة تُطلَق من أسلحة تحملها المدرعات والمصفحات أو تُلقى من على طائرات أسرع من الصوت أو تُوجه من البارجات البحرية التي تستوطن البحار والمحيطات.

بالتأكيد لم يكن يُتخيل أن مدنًا هادئة تقع على بُعد آلاف الكيلومترات يمكن استهدافها بصواريخ عابرة للقارات أو سحقها برؤوس نووية تحملها صواريخ مُجنحة تُسيَّر عبر جهاز تحكّم لا يزيد حجمه عن الكف وإلا لما دعا لصانعه بالجنة بل ابتهل إلى ربه في غسق الليل أن يُصليه نار جهنم خالدًا مخلدًا يحترق فيها كما يحترق العالم الآن بسبب ما جلبته آلة الحرب المتطورة من دمار.

سيصرف الشاعر النظر عن كتابة ولو ربع بيت يُمجد السلاح وصانعه إذا ما علِم أن العالم استحال بسببه إلى غابة مُوِحشة يفتك فيه القوي بالضعيف ويُنكِّل المتمكن اقتصاديًّا بالمعوز ومَن قلّت حيلته.. إذا ما نما إلى سمعه أن الكون يقترب يومًا بعد يوم من حرب عالمية ثالثة وأن الجميع لا يعلم إلى أين هو ذاهب.

لن يتجرأ أي من شعراء تلك المرحلة التاريخية المُظلمة فيكتب بيتًا يمتدح فيه لمعان البارود كهذا البيت: بارودنا يلظي من الشمسِ ورصاصنا أربع ميه وخمسِ.

بل لو حُدِث أن ذلك البارود والرصاص لم يكن توريده وتوزيعه من قِبل صُنّاعه سوى هز الاستقرار وبث الفُرقة وضمان السيطرة وجني الأموال لما سُر لحظة بتدوين بيته أو ترديده في «الرزفات» بل نفى عن نفسه موهبة الشعر وأنكرها وتبرأ من مديح بأس صانع البندقية وشجاعة حاملها وغنيمة المحمولة إليه براءة الذئب من دم ابن يعقوب.

آخر نقطة..

والقلق حول الحياة وتأمين لقمة العيش والتنفس بحرية يحاصر شعوب بلدان كثيرة، نحن على هذه الأرض الطيبة وارفة الظلال ننعم بالرخاء في عهد سلطان عادل رحيم شفوق يُحبنا ونحبه «حفظه الله»، نستنشق هواء الحرية، نعيش الحاضر بروح متحفزة، وأمل لا يخفت في قادم أكثر إشراقًا.

عمر العبري كاتب عماني