في جو من الرقابة المتبادلة
بات كل منا الآن يتمتع بصفة «ناشر» بفضل شبكة الإنترنت وأذرعها المتمثلة في منصات التواصل الاجتماعي التي أَفرجت عن مساحات جديدة من الكلام والنقاش لم تكن مأهولة حتى في أكثر سنوات الصحافة والإعلام التقليدي ازدهارا. أما اليوم، وبقليل من اللمسات الإخراجية لتطوير ما ينشره على حسابه الخاص، كما ونوعا، يصبح بإمكان المستخدم، هذا الناشر الجديد، أن يتحول إلى مؤسسة نشر نشطة لها ارتباطاتها وتعاقداتها وأجندتها أيضا، كما هو الحال مع من يُوصفون جزافا بـ«المؤثرين» أو «المشاهير» والذين باتوا يمثلون شبكات ربط وقنوات متنقلة.
تدفقت بيانات الإنترنت إلى حياتنا لتكسر الهرمية التقليدية للخطاب المتفرع من القمة إلى القاعدة. باستعارة هندسية جديدة يمكننا القول: إن الدائرة قد حلت محل الهرم القديم لترسم فضاء الحوار العام المتشابك والمشترك، لكنها دائرة بلا مركز مستقر وبلا هوامش تقف على مسافة ثابتة. من لم يكن لصوته صوت في «الحياة الواقعية» فإن وسائل التواصل الاجتماعي خصصت له مقعدا في مقهى الافتراضيين المجاني، وأعطته الحق في التعبير والسجال والفرجة، كما منحته الخيار دائما في الغياب أو الصمت وفقا لمدى قدرته على الثبات في بؤرة الاستقطابات المُرَكَّزة. وفي هذا الجو من الاشتباك الحيوي تقدم هذه المنصات نموذجا مختلفا للمواطنة التي يقف فيها جميع مرتادي هذه المنصات تحت مظلة واحدة من القوانين وشروط الاستخدام بلا تفاوت طبقي أو عرقي وبلا تمايز يُصنف فيه المستخدمون وفقا لمراكزهم الاجتماعية كما قد يحدث في بيئات التواصل المباشر. هذا على الأقل ما توحي به لوائح تويتر وفيسبوك وإنستجرام لمستخدميها، بصرف النظر -مؤقتا- عن الانحيازات السياسية الخفية والواضحة لهذه المواقع. وهكذا أيضا تساهم بيئة الإنترنت في تجذير الثقافة الديمقراطية ونقلها تدريجيا من الفضاء الافتراضي إلى التجربة الواقعية المباشرة، غير أن الديمقراطية التي تمنحنا إياها الإنترنت ستبقى محكومة في النهاية بمدى حرية التعبير ومواءمة المواد القانونية في البلدان التي تكبح جموح شخصياتنا الافتراضية بحدود الواقعية.
لكن دور الناشر الذي نلعبه بتفاعلنا داخل مساحات هذه المواقع لا بدَّ أن يأتي مدموغا بصفة أخرى وهي صفة «الرقيب»، فكل ناشر هو رقيب بالضرورة وفقا لما يفرضه مسار التدافع والتنافس والشد والجذب بين الأطياف المتباينة. وبالعودة إلى الوراء، لننظر على سبيل المراجعة والمثال في العقود الماضية التي سبقت صعود وسائل التواصل الاجتماعي وهيمنتها على صناعة قضايا الرأي العام والمزاج الجمعي، نجد أن الصحافة المستقلة في البلدان الديمقراطية كانت تشرف على تأسيس حقبة فريدة في تاريخ العلاقة بين السياسة والصحافة؛ امتازت تلك الحقبة بحالة من التوازن الرقابي بين قطبين، هما: الدولة ومؤسساتها ممثلةً بالشخصية السياسية من جهة، والمجتمع ممثلا بالصحافة المستقلة وما يرفدها من النقابات العُمالية ومؤسسات المجتمع المدني والنشطاء والمثقفين الذين يغذون الدور الرقابي للصحافة في متابعة مجريات الأداء الحكومي ومستوى الحريات المدنية، وبذلك استحق الإعلام التقليدي والصحافة تحديدا بأن توصف بـ«السلطة الرابعة» من بعد سلطات الدولة الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية.
أما اليوم فنحن نتحرك داخل مستنقع من الرقابة المتبادلة بين كل العناصر والأطياف التي تملك منبرا شخصيا للتعبير على منصات التواصل الاجتماعي... حالة تربص مستمر! يمكنني أن أشبه الأمر بالإقامة في حي سكني يصوب فيه الجيران كاميرات المراقبة على بيوت بعضهم البعض، بحيث تتداخل عيون الكاميرات وتتقاطع في كل زاوية من الحي، لتعكس مع الوقت توافقا مكتوما بين السكان على أن تكون هذه الرقابة المتبادلة هي الأسلوب الذي يحفظ للحي أمنه واستقراره. ببساطة أكثر يمكن لأي مستخدم أن يرفع هاتفه ليلتقط صورة لمخالفة مرورية شهد عليها في الشارع، مطالبا «الجهات المختصة باتخاذ الإجراءات اللازمة» هذه العبارة التي أصبحت تقليدية جدا هذه الأيام ورائجة حتى في التعاطي مع المحتويات الافتراضية نفسها. أما الصفحات الإلكترونية للمطاعم والفنادق وما شابهها من الصفحات التجارية التي تسألك أن تضع تقييمك لجودة الخدمة المقدمة فهي تستثمر رقابتك كمستهلك لرفع مستوى خدماتها وتحسين أداء موظفيها، إلى جانب استفادتها من هذا الاستجواب في استشعار رغبات وتفضيلات الزبائن. فهل يمكن أن نطبق المبدأ نفسه على جو الرقابة المتبادلة في وسائل التواصل الاجتماعي لتصبح آلية شعبية لضمان الجودة؟ سؤال لا يمكن الإجابة عليه دون أن ندرك كمستخدمين ضرورة أن نحول هذه الرقابة المتبادلة من كونها رقابة أمنية وأخلاقية على محتويات الآخرين لتكون رقابة نقدية تصقل الآراء العامة وترفع من كفاءتها.
سالم الرحبي شاعر وكاتب
