عيادات تتاجر بالألم

26 نوفمبر 2022
26 نوفمبر 2022

هيئة الرجل السبعيني العتيق ولهجته القديمة تدلل أنه من سكان الجبال، أما طريقة تعاطيه مع المُحاسِبة الشابة فلا تترك مجالًا للشك أنه غير متعلم جاء برفقة شخص له نفس الهيئة، هو صاحب التاكسي الذي استأجره ليصل إلى العيادة التي وصفوها له بأنها " زينة " رغم أن بعض الشباب أطلق عليها تسمية " المنشار".

سمِعَ كل من كانوا داخل الغُرف القريبة والبعيدة من نافذة المحاسِبة " احتجاج الرجل و" تحسُبِهِ " إذ تمكن صوته المُزِلزل من اختراق آذان المنتظرين في القاعات والأطباء والعاملين، وربما من كانوا يتناولون شاي " الكرك " الرخيص في المقهى المجاور للعيادة بكل سهولة.

أصدر الرجل اتهامات علنية متوالية تسِمُ القائمين على العيادة بالاستغلال وعدم مخافة الله ورسوله، وأنهم لم يُخبروه مسبقًا بأسعار العلاج، وأن سعر فاتورة العلاج تشكل ربع راتبه المتواضع مُذكرًا بصورة عرضية أنه متقاعد كان يعمل حارس بوابة، وأنه يريد مقابلة المسؤول عن العيادة كونه لم يتمكن من استيعاب كلام المُحاسبة التي بدت مرتبكة.

ووسط هذه " الهُورة " ومحاولة الفتاة تهدأة الرجل حضر الطبيب المسؤول وسأله وهو يبتسم: هل لديك تأمين صحي ؟ لم يستوعب الرجل ما معنى تأمين صحي مما حدا بالطبيب المسؤول مواصلة الشرح: إذا كنت من العاملين في القطاع الخاص فإن الشركة التي تعمل بها ستتحمل كل تكاليف علاجك حتى لو اُضطررنا إلى إجراء عملية، وهذه ميزة غير متوفرة حتى الآن في القطاع العام " رد الرجل: " أنا رجال متقاعد من عشر سنين وما أعرف مو يعني تأمين ولا حد خبرني عنه ".

بعد ذلك طلب منه الحضور إلى مكتبه لإيضاح سبب ارتفاع الفاتورة، لكنه رفض رفضًا قاطعًا مما أُضطره إلى تقديم تلك الإيضاحات بالقرب من نافذة المُحاسِبة وهو ما أثار حفيظة المرضى، وممن حضروا مع مرافقيهم الذين يعتقدون أن الكثير من الفحوصات والعلاجات التي تُجريها هذه العيادة للمرضى لا تمت إلى معاناة المريض بصلة، وإنما تهدف إلى رفع سعر الفاتورة وتحقيق الربح.

تحدث الطبيب المسؤول عن عينات الدم والبول المختلفة التي أخذوها من المريض والأشعة التي بحسب قوله " لا بد منها " وسعر مقابلة أكثر من طبيب واحد، لكن الرجل لم يقتنع بهذا الإيضاح، بل هدد بأنه سيلجأ إلى الجهات المختصة للتدخل، فهو عاجزُ عن دفع 32 ريالًا مرة واحدة، بينما كان يدفع للعلاج سابقًا في عيادات أُخرى مبلغًا لم يتجاوز الـ7 ريالات فقط.

بلغ الرجل حالة من الانفعال الشديد ظهر من خلال جحوض عينيه، وارتعاش يديه والعرق الذي يتصبب من جبينه، مما أُضطُر الحاضرون إلى إجلاسه في " الصوفة " المهترئة المقابِلة للنافذة، فيما دفع أحدهم إليه كوبًا من الماء ازدرده جرعة واحدة.

استراح الرجل وبعد دقائق استعاد هدوئه وبدا قابلًا للانصات قال بصوت مرهق: " أسميني ندمت جيت ذي العيادة " وأنهال بالذم على ما أفرزته الحياة الحديثة من أساليب تغذية ضارة لم يكن أباؤه وأجداده يعرفونها، ومن الآثار السلبية الذي خلفها الابتعاد عن الطبيعة في الغذاء والتداوي مضيفًا " أبويي مات وسنه يجي 90 سنة ولين مات ما كان يشكي من سكري ولا ضغط ولا غيره وتو هاذي حالتنا حنا ما شي ما فينا ".

هنا قطع الطبيب المسؤول سرد المريض لأنه لم يستوعب شيئا مما قاله، وعاود الحديث عن المبلغ الذي احتملته الفاتورة لكن أحد المرافقين لمريضة جيء بها لطبيب القلب أسكته بطريقة كانت كافية لعدم تكرار المحاولة، وأكد ما جاء على لسان الرجل بل زاد عليه بذكر تفاصيل أحرجت كل العاملين بالعيادة ممن كانوا شهود عيان على الواقعة.

وجه المرافق للطبيب المسؤول كلامه بالقول: عيادتكم هذه شركات استثمارية بامتياز تتاجر بآلام الناس، وتستغل ضعفهم وهم مرضى وجهلهم بكثير من الأمراض والمعلومات الطبية ودليل ذلك أنكم تكتبون قائمة الفحوصات بالانجليزية وباختصارات معينة لا يعرفها إلا المتخصص. مثل هذه العيادات رغم بعض إمكانياتها التي لا يمكن إنكارها لكنها بالمجمل لا تقدم أكثر مما تقدمه المراكز الصحية والمستشفيات الحكومية غير أن الإنسان عجول بطبعه، يسعى إلى العافية بأقصر الطرق، ويعتقد أن هذه العيادات بعلاجاتها السريعة ستُنهي آلامه وأوجاعه بحقنة سحرية واحدة وتُباعد بينه وبين لحظة الموت القادم لا محالة.. هل لك أن تجيبني بأمانة ما دلالة أن يتجاوز سعر السقاية لديكم 11 ريالًا بينما تقدم في المركز الصحي الحكومي بالمجان ؟ ماذا يعني أن يدفع المريض 5 ريالات لمقابلة الطبيب، بينما تكون مجانية في المشفى الحكومي ؟ هل تختلف الفحوصات والمتابعات التي تقومون بها هُنا عن تلك التي تجريها المؤسسات الصحية العامة ؟ بالطبع لا تختلف لكن الإنسان " خُلق هلوعًا " وبعض الناس قليلي الصبر يكرهون الانتظار ولا يريدون الاعتراف أن إمكانياتهم محدودة لا تسمح لهم بالعلاج في بعض العيادات الخاصة وطبيعة مرضهم " مُزمنة " تحتاج إلى مراجعات مستمرة، وإشراف موضوعي لا يهدف إلى التربح، وهو ما توفره المؤسسة الصحية الحكومية.. أنا هُنا لا أُعمم لأن البعض يملك بالفعل إمكانيات العلاج في هذه العيادات وحتى السفر للخارج وهذا حقه المشروع.

ساد صمت طويل وسكتت كل التعليقات إلا وشوشات السائق المُرافق للمريض، وهو يتحدث بصوت خافت في هاتفه البدائي النقال من طراز نوكيا " البجلي " لم أتمكن من منع وصوله إلى مسمعي: " أقولك سليّم تجمل ود الحلال تبعنا العيادة مودي هناك أبوك يعالج وجيب معك البتاقة ما سدن غوازيه ".

آخر نقطة يسرقنا الزمن من أنفسنا في أشكال مختلفة من المشاغل نكون حينها منتشين مُخدرين لكن ما إن نصحو - إن حصل ذلك - نصحو على أشخاص آخرين لسنا نحن وعلى حياة مختلفة ليست التي كُنا نعيشها.