عتبات النقد 4 :كَسْر الأصنام

28 مارس 2023
28 مارس 2023

ليس علينا نحن النقاد الذين يُعْمِلون العقل والمنطق في فهم آليات الخطاب الأدبي وإدراك أبعاده ومآتيه وفك مُغلقه، وكشف ما يتبطن فيه من معان وتحميله ما في نفوسنا من تأويل ورغبة أن نصل إلى ذروة التكشّف والانكشاف، أن نعيش سياحة اللّعب باللّغة وخلْق عوالم بالكتابة لا تُناظر عالم الواقع ولا تستنسخه. لقد عمل النقد طيلة عقود على ضبط قيود تتحكم في الأدب وتَعمل على إحداث آليات تجمع ما أمكن من إجماع التلقي وضمان تحققه، ولكن بلغنا درجة من الوعي والعلم بأن الخطاب الأدبي شأنه شأن الآثار الفنيّة عامة يقوم على ما ينعته نيتشه بالقوة الديونيسية نسبة إلى ديونيسوس إله الابتهاج والنشوة، ولا يمكن أن يدرك عمقه بآلات منطقية عقلية، فهل يبلغ الناقد درجة التمثل والتخيل التي يبلغها الكاتب الحقيقي حتى يتسنى له أن يرى بمنظور الأديب؟ يتحطم العقل والمنطق أمام أساطير، حكايات، صارت نماذج في علم النفس وفي علم الاجتماع، وفي فقه الواقع. على العكس تماما مما نتصور، فالأدب لا يمثل الواقع بل يصنع واقعا، يقرأ واقعا يتعسر على الفيزيائي أو الرياضي أو المادي المنطقي أن يُفكك أعماقه، «إلكترا» القادمة من الخيال الإغريقي صارت مفهوما في علم النفس الفرويدي لتشخيص آلام البشرية التي تلحق أرواحهم وتعطل أجسادهم، وكذا الأمر بالنسبة إلى «أوديب»، وهاملت في مسرحية شكسبير المعروفة، التي صارت نوازعها مدخلا للفلسفة.

ولذلك، وأمام وليمة النقد الباذخة التي يحضر فيها علم الاجتماع وعلم النفس وعلم اللسان وعلم الإحصاء والفلسفة وتاريخ الأدب، فإن الناقد العارف اليوم يُنذر بكسْر الأنساق المحدّدة للأدب، ويُساير ما أعلنه منذ زمن نيتشه في دعوته الفلسفة إلى التخلّص من صرامة المنطق والعودة إلى الوجدان الذي تتحرّك فيه ذات الإنسان، ويُمثّله الفن، حتى إن أفضى الأمر إلى التخلص من الفلسفة التحليلية تماما، فالحكايات المتحققة تتموقع في الوجود بديلا عن الجهل وبعْثا لعوالم ترضي أسئلة البشر، الحكاية تعيد خلق عالم مناظر للعالم الماديّ الواقع، تصبح الحكاية الأسطورة فعلا في الوجود وفي التاريخ وفي الإنسان، وهو الأمر الذي توسع فيه نيتشه في كتابه الهام «مولد التراجيديا»، حيث أفاض في الحديث عن الدور الملهم للميثولوجيا. لم تصوّر الأساطير الإغريقيّة التي ما زلنا نعيشها بأشكال مختلفة الواقع، بل ملأت فراغات وجودية عميقة، قدّمت عالما صار حقيقة وواقعا، وصنعت آلهة وأنصاف آلهة وأبطالا حُمّلوا منازع البشر وهمومهم. الأسطورة الإغريقية هي الحكاية الأبدية، هي الحكاية الأم التي حاول أن يفك بها البشر غموض الوجود من حولهم، ولا يُمكن للنقد أن يجاريها أو يسايرها بآليات فهم وتفكيك جاهزة، والكون مليء بالحكايات التي صنعت أمما وشعوبا واعتقادات، ومن هنا يتأتى الدور الخطير للقصص، ويتأتى أيضا الدور الذي ينبغي أن يكون عليه ناقد هذه القصص. كذا الأمر في تراثنا العربي القصير، في قصة مثلت الحكاية الفلسفية التي لا تنقل الواقع ولا تصوره، وفي الآن ذاته هي لا تخرج عنه بشكل من الأشكال، «حيّ بن يقظان» الشخصية الأساس في قصة ابن طفيل، هي في الأصل صُورة من الشخصيات الورقية التي حُمّلت من المعنى أعمقه، وتهيأت للدلالة على حيرة الإنسان حد إدراكه معنى المحرك الذي لا يتحرك، تحتاج القصة إلى ناقد مدرك لتاريخ الأديان، لعلوم طبائع الإنسان، لأساطير الصلات بين الإنسان والحيوان، لإدراك المعاني الفلسفيّة، من أرسطو إلى ابن طفيل، لفهم أدوات القصص وعلّة لجوء الكاتب إلى اختراع الشخصيّة ووضعها في مقام العزلة عن الإنسان، والاحتواء من الحيوان، معارف جمة وجب على الناقد أن يدركها قبل أن يفتح الحديث عن القصة الفلسفية. ومن غريب الأمور أن قصة «ماوكلي» (وهو اسم الشخصية الرئيسة في كتاب الأدغال (1894) للمؤلف البريطاني «روديارد كبلينج» Rudyard Kipling)، المستقاة من حي بن يقظان وجدت انتشارا وتعلقا عند العرب يفوق بكثير ما لاقته القصّة الأصل، ويمكن توسيع دائرة القصص الأصول للحديث عن العمل الرهيب لأبي العلاء المعري «رسالة الغفران»، وعن موسوعة السرد العربي «ألف ليلة وليلة»، وعن غيرها من الأعمال السردية في عالمنا الحديث التي لا تحتاج قالبا جاهزا للنظر والنقد بقدر ما تحتاج فكرا واعيا وأدوات نافذة.

قوة التعبير عن آلام البشر، عن خبايا النفس، عن تاريخ لا يكتبه التاريخ، عن لمسة حزن، عن ارتفاع ذات وعن هبوطها، عن عين للكاتب ليست كعيون باقي البشر، عن قدرة في تمثل حالة الفرد وما يمكن أن يعتري نفسه من هبوب المصائب والمصاعب، كلها مشاعر تقدر الكتابة على التعمق فيها، و«مثلما قالت فلسفة الحداثة مع ديكارت أنا أفكر إذن أنا موجود، قال أدب الحداثة أنا أتألم إذن أنا موجود»، فمن الذي يمكن أن يقوّم وأن يعيّر وأن يدرك التعبير عن آلام البشر؟

ليس للنقد اليوم إلاّ أن يتخلص من أوهام الموضوعية والصرامة والدقة والعقلانية، ليمتص ما تراكم من أدوات ناجعة نافعة فيما يسميه أستاذنا محمد الطرابلسي بوضع اليد في العجين، أن يمتلك الناقد حسا أدبيا ووجوديا وأن يمتلك أيضا أدوات نقدية غير نسقيّة وغير ثابتة، وأن يطوعها لا أن يتطوع بها. التراكم النقدي اليوم هائل ومفيد ولكنه ما زال أيديولوجيا لا يتمتع بصفة الإنسانية. فنحن في النقد عموما نتحدث على ثلاث مراحل فارقة في النقد الاختباري التجريبي الحديث، تتحدد بحدث فارق في تاريخ النقد، وهو البنيوية، وما قبلها من نقود اجتماعية ونفسية وتاريخية، وما بعدها مما تولد عنها من بنيويات أو ما خرج عنها من نقود ما بعد استعمارية، تحطّم الأنساق الأيديولوجية السابقة وتُقيم في الآن ذاته أنساقا جديدة وأيديولوجيات حادثة في نقد المركزية الغربية وتسليط الدراسات البينية والنسوية والسياقية والعرفانية والسرديات العابرة للأجناس والوسائطية، وغيرها من التوجهات النقدية التي تشكل وليمة شهية للناقد الناظر من علٍ، العالم بأصول هذه النظريات وتفرعاتها، المنتفع بها أدوات ووسائط لا كتلا جاهزة للتطبيق، الفارق في ظني بين الناقدين صاحب الرؤية المتجردة من ألم الانضباط المنهجي والمتحلل من كل عبء أيديولوجي وموضوعي في الآن ذاته، هو الفارق بين أن تأخذ وجبة عالمية جاهزة وأن تأخذ معدات هذه الوجبات وأن تُدرك مآتيها ومصادرها وكل إشارة فيها وأن تُحسن إعداد وجبتك بمذاق مختلف، حان الوقت لكسر الصنم النقدي دون إقامة صنم جديد.