عباقرة قدِموا من الجبال

27 نوفمبر 2021
27 نوفمبر 2021

لأنني كنت لا أملك خيارًا آخر غير المرور عبر شارع المعبيلة شديد الازدحام المتجه نحو الخوض ومنه إلى داخل مسقط آثرت هذه المرة أن أمُر باكرًا اتقاءً لأزمة مرور الأحد التي عادة ما تصيب أي شخص بالتوتر والسأم.

قبل الدوار الأخير تمامًا انتصبت على الجانب الأيمن من الشارع مدرسة يبدو من تصميمها واسمها أنها ليست مدرسة حكومية وإنما خاصة، وتجلى ذلك من نوعية الحافلات المخصصة لنقل الطلاب وتشكيلة وألوان مظلات المركبات التي غطت كل المواقف.

شاء القدر أن تتوقف حركة المرور وأنا محاذٍ لواجهة المدرسة وبكل صراحة لم تُلفت انتباهي نوعية السيارات الفارهة التي بدأت تتوافد تباعًا بسائقيها المخصصين لهذه المهمة أو اللباس الذي ترتديه العاملات المرافقات للطلاب صغار السن لأن « الكتاب يقرأ من عنوانه «.

ما لفت انتباهي فعلًا سيارة عادية سائقها يبدو أنه ولي أمر شاب جاء وحده بابنته متأخرًا بلا عامِلة مُرافِقة تحمل الحقيبة ولم ألحظ أي بروتوكول لنزول الطالبة من السيارة ولاشيء مما نسمع عنه من مظاهر « الاتيكيت « التي تخص النخبة وأبناءهم عادة ويبدو من هيئته أنه موظف عادي وكان في طريقه للدوام.

مضى المشهد سريعًا بعد أن تحرك طابور السيارات التي كانت أمامي لكنَ أفكارًا عديدة وأسئلة مختلفة قفزت إلى ذهني حينها؛ أولها كان يتصل بالشخص « المحظوظ « الذي يملك إمكانات كافية لتعليم أولاده « جميع أولاده « في مدرسة كهذه تطلب مبالغ عالية كل عام ؟ وهل يتّّبع سياسة خاصة تقوم على تقليل الإنجاب وبالتالي يسهل عليه تدريسهم لأنهم قليلو العدد ؟ أم أن العدد لا يشكل عقبة أمامه بسبب توفر الإمكانات ؟ هل بالفعل يخرج الطالب من هذه المدارس عبقريًا يجيد العديد من اللغات وأهمها الانجليزية وبالتالي يتحصل على أفضل البعثات الخارجية ؟ لماذا لا يستثمر البعض في أولادهم حتى ولو كان ذلك من خلال القروض؟

واقعيًا ليس الجميع يملكون إمكانيات تمكِنهُم من تعليم أبنائهم في مدارس كهذه، فإما أن يدفعهم ذلك « طلبًا للسُمعة « إلى الاستدانة أو أن يرزحوا تحت متاعب مادية تتبعها إشكالات نفسية عندما يقررون أن يدخلوا لتحقيق ذلك جمعيات متوالية هي ديون في حد ذاتها أو يعمدوا إلى أسلوب التقسيط متحملين ما يتبعه من ربكة في ترتيب الأولويات.

ورغم أن للتعليم في المدارس الخاصة ما يميزه كالمباني المجهزة بوسائل الراحة وتوفر التكنولوجيا المتطورة وقلة كثافة الفصول ووجود المناهج التي تُطور باستمرار، إضافة إلى تدريس لغات مختلفة إلا أنها لا تهتم كثيرًا بتعليم اللغة العربية كالمدارس الحكومية التي تقوم بتعيين أكثر المعلمين كفاءة في كل تخصص وعادة ما تكون مدفوعة المصاريف في مختلف مراحلها.

ما أنا متأكد منه وما أثبته العلم أن استعداد الطالب الفطري والجينات المتوارثة والبيئة التي يأتي منها والذكاء المتوارث لها علاقة مباشرة بالتفوق بدرجة أُولى ودليل ذلك أن الذين يتفوقون على مستوى المراحل الدراسية المختلفة وحتى مرحلة الدراسة الجامعية والدراسات العليا جاءوا من ولايات قصية بعيدة بل إن بيننا عباقرة قدِموا من الجبال ولم تطأ أرجلهم العاصمة إلا لمرات محدودة حتى عندما أكملوا دراساتهم في الخارج تفوقوا بكل ما للتفوق من معنى.

ورغم كل ما ورد إلا أنه لا يمكن مطلقًا إنكار مميزات التعلم في المدارس الخاصة، لكن يُشترط لذلك توفر الإمكانات وعدم اللجوء إلى القروض والحيل الأُخرى في توالي الأزمات المالية طويلة المدى للأسرة فالتفوق يُشترط لتحقيقه الإرادة والمثابرة ووضوح الهدف أولًا وأخيرًا.