عباس كيارستمي .. مرآة السينما ولغة الشعر
«في غيابكِ أتحدث إليكِ،
في حضوركِ
أتحدثُ إلى نفسي». عباس كيارستمي
يُوصف دائما بأنه شاعر السينما الإيرانية، ويمكن القول أنه شاعر في الفيلم سينمائي في القصيدة. هكذا لا يرد اسم عباس كيارستمي إلا ويكون متبوعا أو مسبوقا بالحديث عما يمكن وصفه بمدرسة «السينما الشاعرية» في إيران، حيث تتدفق الكاميرا بالمجازات والاستعارات وتأتي البلاغة من أبسط الكلمات والأشياء، حيث يقل الاعتماد على الإضاءة الاصطناعية ويفسح المشهد لنور الشمس. لكن شاعرية أفلام عباس كيارستمي لا تقف عند ملامح البراءة المطلقة بل يمكن أن تكون احتيالا ذكيا على مقص الرقيب.
تأتي فلسفة عباس كيارستمي السينمائية انطلاقا من وصف السينما بالفن السابع؛ ما يعني أن السينما هي محصلة خبرة مختلف الفنون التي سبقتها، لا سيما الشعر، فيأتي الفيلم كاللوحة النهائية التي تتداخل فيها أدوات وأساليب التعبير الفني المختلفة، على أرضية الواقع الصلبة المتاخمة للحلم: «أشعر بأن السينما هي الفن السابع، ومن المفترض أن تكون الفن الأكثر اكتمالا بما أنها تضم الفنون الأخرى. لكنها أصبحت مجرد مجال لرواية القصص، بدلا من أن تكون الفن الذي ينبغي أن تكونه حقا» هذا ما قاله في حواره مع ديفيد ستريت المنشور في المجلة السينمائية الأمريكية Film Comment، ويكتسب هذا الموقف أهميته في تجربة كيارستمي عندما نعلم أنه ومنذ طفولته إلى سنواته الجامعية كطالب يدرس الرسم والتصميم وحتى وفاته، كان قد زاول أشكالا متنوعة من التجريب الفني في الرسم والتصميم والكتابة.
فيلمه شريط عار من أي غطاء موسيقي، لا موسيقى تعلو بالمعنى الحرفي على حفيف الأشجار وهمس الكائنات وحركتها. فراغات غير مملوءة، مقاعد شاغرة، وبياض متروك للتأويل. بهذه الطريقة يجد المتفرج نفسه شريكا في التجربة، واقعا مع أبطال العمل في التدفق السردي للأحداث.
تعلمنا سينما كيارستمي جماليات أن نتحرر من سلطة الواقع، الحرية المستحقة بذكاء القلب لا بعنجهية الوعي الذي يسقط في الحسابات المباشرة والسطحية في التعامل مع الفن.
في عام 1987 كان كيارستمي قد أنجز واحدا من أبرز أفلامه «أين منزل الصديق؟» الفيلم الذي يعتقد البعض أنه العمل الأول الذي لوَّح باسم عباس كيارستمي في المهرجانات السينمائية خارج إيران وقدمه كمخرج عالمي. يتتبع الفيلم بشاعرية جارحة رحلة طفل (أحمد بور) تحت مطر قرية كوكر وهو يحاول الوصول إلى منزل زميله في الفصل من أجل استعادة دفتره المدرسي خشية من عقاب الأستاذ، الذي اكتشف أن الصبي كتب الواجب على الكتاب وليس على الدفتر. في هذا الفيلم نقف أمام محاولة لاستعادة الصِّبا؛ فنان يتهجى صورة بالأبيض والأسود للطفل القديم الذي كانه، يقتبس المعاناة الطفولية التي تضيؤها البراءة ويحجبها الخجل عن عيون الكبار.
لكن كيارستمي سيعود بعد سنوات للبحث عن الطفل (بطل فيلمه) في القرية التي لم يعد لوجودها أثر على الخارطة بعد أن محاها الزلزال الأعنف في تاريخ إيران المعاصر، والذي ضرب إيران عام 1990 بقوة بلغت 7.4 على مقياس ريختر، وراح ضحيته حوالي 3500 شخص حسب التقديرات، كما أدى إلى نزوح وتشرد مئات الآلف من السكان فوق جغرافيا إيران. حكاية البحث عن الطفل، بطل الفيلم السابق، ستقود إلى فيلم جديد سيخرجه عباس كيارستمي عام 1992 بعنوان «تستمر الحياة». وفي هذا العمل يرصد كيارستمي تدريجيا ولادة الأمل من رحم الكارثة، كارثة الزلزال. يعيد للحياة توازنها مع الموت عبر تحية سينمائية تلتفت فيها الكاميرا إلى أشياء الوجود التي لم تتوقف عن النبض رغم الفجيعة ورائحة الموت التي تحاصر القرية الهامشية. يقول عن مشروع الفيلم: «رحت أرصد جهود الناس وهم يحاولون إعادة بناء حيواتهم (أي بعد الزلزال) على الرغم من معاناتهم المادية والعاطفية. الحماسة للحياة التي كنتُ أشهدها تدريجيا، غيرت منظوري. تراجيديا الموت والدمار أصبحت باهتة».
فيلمه «عبر أشجار الزيتون» الذي أخرجه عام 1994 هو آخر أفلامه الثلاثة التي أطلق عليها النقاد عنوان «ثلاثية كوكر» التي تشمل الفيلمين السابقين، وكلها تدور أحداثها وتفاصيلها في تلك القرية التي لم تعد على الخارطة. في هذا الفيلم يمكننا أن نتأمل الحب بوصفه مسألة اجتماعية تفضي إلى الزواج مباشرة، أو هي في الأساس تعني الزواج، في قصة تجمع الشاب حسين بالفتاة طاهرة التي باتت يتيمة الوالدين بعد الزلزال.
ستلفتني دائما قدرة كيارستمي، بل عبقريته في تصوير فيلم داخل فيلم داخل آخر، كما حدث في فيلمه البديع «عن كثب» والذي يصور فيه لقطات من محاكمة شاب مولع بالسينما إلى حد انتحاله لشخصية مخرجه الأثير محسن مخملباف. وسأظل أتعلم منه الكثير كشاعر.
سالم الرحبي شاعر وكاتب
