صورة المدينة في نص «مدينة في فمي» لعامر الرحبي

18 سبتمبر 2023
قطوف من الإبداعات الشبابية «1»
18 سبتمبر 2023

يُحيلنا عنوان قطوف من الإبداعات الشبابية إلى الكتب السنوية التي كانت تصدرها وزارة التراث والثقافة تزامنا مع إقامة فعاليات الملتقى الأدبي السنوي للشباب، وهي في مضمونها إصدارات توثيقية قيّمة تحفظ للمسابقة نصوصها وذاكرتها، ويمكن للباحث العودة إليها متى شاء مُطّلعا على الأدب العماني في بواكير كتاباته الأولى.

جاءت فكرة الكتابة عن نصوص الملتقى الأدبي كونها نصوصا لم يُسلَّط الضوء على أكثرها إلا في القراءات النقاشية أيام الفعالية وقد تكون مقتضبة وسريعة، فأحببت العودة إلى قراءة النصوص الأدبية شعرا وقصة في مسابقتي الملتقى الأدبي والمسابقة الأدبية، ويمكن إضافة نصوص مهرجان الشعر العماني لاحقا إليها. وستكون القراءات على فترات زمنية مختلفة غير متصلة.

أول هذه القراءات عن نص شعري بعنوان (مدينة في فمي) للشاعر عامر الرحبي الفائز بالمركز الثالث في المسابقة الأدبية لعام 1998م التي كانت تنظمها الهيئة العامة لأنشطة الشباب الرياضية والثقافية قبل دمجها مع وزارة التراث والثقافة.

يأخذ نص (مدينة في فمي) اتجاها رومانسيا شفيفا في بدايته، وتزدحم دلالات النص بين الحب: (الشفاه/ القُبَل/ قميص نوم مبتل) وبين القسوة والقلق: (العاصفة/ ليلة شتوية/ الخوف)؛ وعلى ذلك فإن النص منذ الوهلة الأولى يسير بنا إلى الاتجاهين السابقين، ليستعيد القارئ في ذهنه صورة المدينة التي تظهر في عتبة النص محاولا استنطاقها من لغة الشاعر ومفرداته. ولعل المقطع الأول كافٍ أنْ يلج القارئ من خلاله إلى عوالم التخيل وضرب الأفكار ببعضها، ومعه يحاول النص أن يجذبنا إلى لغته العذبة قائلا:

هذا يا آنستي بعض الحب

والشفاه، والقبل

تركض على بابي

دائما تحملني العاصفة

في ليلة شتوية

تبحث عن مناديل لقميص

نوم مبتل

يبحث عن منافذ عن عنوان

نجني من ورائه النظرات

والخوف من القادم.

ما علاقة الاستهلال الرومانسي بالحديث عن المدينة؟ هل هو الاستحضار ذاته الذي عليه الشعر في الجمع بين المدينة والأنثى عند بعض الشعراء مُشكّلين منهما صورتين متداخلتين في التعبير والدلالة؟ إنها أسئلة تدفعنا إلى التفكير الكبير حول توظيف المدينة/ الأنثى عند الشاعر المعاصر، وهي أسئلة تبرزُ حتما مع قراءة استفتاحية هذا النص قبل الشروع في مقاطعه اللاحقة.

بعد المقطع الاستفتاحي، يأخذ الاستفهام مسارا دلاليا آخر يُحيل على الشتات والدخول في عوالم المجهول، واستحضار ذاكرة الأحداث والأمكنة التي تنبني عليها دلالات مقاطعه الشعرية، لتتكرّر صيغة السؤال (ماذا) في أسطرٍ متتالية، يعيش معها المقطع الشعري حالة من البحث عن المفقود أو محاولة الكشف عن لحظات غائبة واستعادتها لحظة الكتابة الشعرية.

تتعاضد صيغة السؤال مع ضمير المتكلم (لنا، أترك، تجعلنا، أعمارنا، لي، أنا، شقاواتنا، بحثنا عنها، ماذا نسميها) مُحدثةً حركة في الشعر، وانتقالا في الأمكنة وصولا إلى لحظة اقتران الزمان (ليلة محسوبة على أعمارنا، الليل، المساءات، الليلة السوداء) بالمكان (حجرة بابي، منافذ، محطة القطار) في قوله:

ماذا خبأت لنا هذه النظرات

والعيون الخجلى أتركها على منافذ

علّها قبلة واحدة يا سيدتي

تجعلنا سكارى في ليلة محسوبة

على أعمارنا..

ماذا تبقى من هذا الليل

ماذا تبقى من هذا العمر

والنشيد الطويل

على حجرة بابي يندس

مثلما الآخرون يشتعلون

حنينا لأمهاتهم

وأنا أشتعل جمرات

وحب يمتثل لي دون كراهية

هذه بعض شقاواتنا

التي بحثنا عنها عنوة

هذه اللعبة ماذا نسميها

مثلما قوس قزح ينير

مساءات وجهي

غير أن وجهي لا يشبه

الآخرین

لي طلقة تشبه النيون

وعفاريت الليلة السوداء

ولا عزاء

سوی الشفقة على امرأة

تركتها عند محطة

للقطار.

إنّ لحظة الاقتران قد أوجدت نداء خفيا داخليا يوضّح الصورة التي عليها الشخصية، لتظهر دلالات الخوف والخجل والسُكْر والحنين والحب والكراهية والشقاوة والشفقة وأخيرا البكاء. إنّ الدلالات السابقة المكتظة في المقاطع السابقة تدل على توليد الصورة الشعرية وتكثيفها وحركتها كما أبرزت النفسية المتشكّلة من الدلالات فيها.

كما عملت على إشعال الذاكرة والعودة بها إلى مخابئها، واستنطاق حروفها والتي معها ما يزال النص يراوح مفرداته بين الحب والخوف، وبين اليأس والصدق فاكتظّت المفردات وتصارعت في لغتها النثرية معبّرةً عن لحظات تمرّ على ذاكرة الشاعر الذي عمل على استحضارها في المقاطع الأخيرة من النص. نجده يمزج بين الميتافيزيقيا والأناجيل والرسل والحكمة والمشعوذين والسحرة والكلمات المتقاطعة كما يمزج بين شخصيات مثل المتنبي والمعري وجيفارا وجمال عبدالناصر.

إن لغة المتضادات هنا حين اكتظّت في النص ربما لا توحي بدلالة معينة بقدر ما تُحيل على صورة المدينة التي تظل ذاكرتها في الأذهان، يردّدها الكلام شعرا، فصورة المدينة في مجملها صورة الاكتظاظ بالرموز والبعثرة الذهنية لواقع يحاول الشاعر رسمه في خريطة شعرية لمدينة يتخيّلها على الورق:

لو أن العاطفة أضحت ملعونة

تنشد الصلوات والبكاء

على الأطلال

على كل شيء يذكرني ببراءتي الأولى

وشقاوتي الأخيرة

لملمت كل الأوراق والرسائل

وأهديتها للباعة للمتنفسين

لهذا الصباح

سئمت الميتافيزيقيا، وصدقت

الأناجيل والرسل

وكل ما أوتي من حكمة

لكني لا أصدق المشعوذين

والسحرة والكلمات

المتقاطعة

و1+1=2

أني أصدق الخوف

المسكون في داخلي

أصدق العنف والهزيمة

وما وراء الكلمات والخريف

وقصة لا تنتهي

وبيت شعر للمتنبي

وحكمة للمعري

وجنون جيفارا، وجمال عبدالناصر

وحكمة الأجداد الأولى

منتقاة هذه الكلمات ليس لها حدود

حين يسمعني الآخرون

لا أجد شيئا غير الخيانة

تلتفت ورائي وأتبعها

كمدينة في فمي

تسكن ضاحكة

وتتقاضى أجور المتعبين

وفاقدي أحلامهم

لكن ليس لي أحلام

فالرياح قد جرفتها

وتركتني أعد خطواتي

متثاقلا

أنظر

من

ثقب

باب!

يُعبّر المقطع السابق عن الصورة التي يحاول الشاعر رسمها في نصه، عن الشتات الذهني والفراغ والحقيقة مقابل المدينة المتخيلة لذا يعمد على انتقاء المفردات المتضادة في المعنى كما يجعل من اللغة بابا إلى هذه المدينة، فيعمد إلى تكرار الكلمات، وتكرار حروف العطف، إضافة إلى الصياغة النثرية للمقاطع التي يرسم من خلالها صورة مدينة/ أنثى يُعبّر عنها بالكلمات شعرا.

هنا تصبح المدينة في نظر الشاعر لغة يجسّدها في الكلام، وهي بلا شك، انتقال من موضع التخيل، إلى المحاكاة، ثم إلى التعبير، لتصبح المدينة أشبه بلوحة متداخلة الألوان، تمتزج علاقاتها بالفوضى الشعرية والأحاسيس المنكسرة، ولعل الواقع انسلّ إلى لغة الشاعر مكونا صورة مبعثرة لواقع مبعثر لم يستطع الشاعر الخروج منه إلا بعالم الكتابة المتخيّل.