«صديقٌ مُخسِّر عدو مُبين»
1
«صباح الخير أيها الصديق العزيز .. صباح الجمال الساكن قلب البلاد القصية المتوارية خلف البحار .. لقد أنجزت وعدي وحجزت لك اليوم التذكرة التي وعدتْ فما عليك إلا أن تكون مستعدًا في التاريخ المحدد .. للعلم كل الأعذار غير مقبولة».
انتهى من قراءة الرسالة التي زفّها له «الواتس أب» في صباح من صباحات فبراير الرائقة وقرر ألا يأتي على سيرة هذه السفرة المُنتظَرة أمام زوجته المُرتابة دائمًا في أصدقائه الذين باتت تكرههم فردًا فردًا .. قرر ذلك لأن ردة فعلها ستكون كفيلة بتعكير مِزاجه وتدمير كل مخططه للسفر إلى تلك الديار.
يبدو كل شيء على ما يُرام فالإجازة من العمل تم توقيعها من قِبل المسؤول والتذكرة محجوزة سلفًا والسكن مؤمنُ من قِبل أصدقاء الرحلة الأوفياء لكن المشكلة - يا لسوء الطالع - أنه لا يحتكم حتى اللحظة على مصروف للجيب يعيش به هناك مُدة أسبوعين فمجمل راتبه لا يتجاوز الـ500 ريال يجب أن يُغطي كافة مصاريف معيشة الأُسرة والفواتير والالتزامات الأُخرى.
يبدو كل شيء على ما يرام .. إلا الوجوم الذي ساد قسمات وجه زوجته التي كانت تخشى تكرار سفراته «العبثية» كما تُسمِها عندما بلغها نيته السفر .. إلا سماع العبارة التي يضيق صدره بسماعها كلما فتح معها موضوع السفر «صديق مخسر عدو مبين» .. إلا الاضطراب الذي يجتاح نفسيات أبنائه الكبار وبناته الذين تحاصرهم الأسئلة واعتادوا ألا يبحثوا عن إجابات لها تتصل بسفر والدهم المتكرر مع «الشِلة» نفسها والمكان نفسه حتى لا تنهار صورته أمام أعينهم .. إلا ذلك الشعور بالانقياد الغبي والمُطلق لأصدقاء سلبيين لا يملك إلا أن يقول لهم «نعم» دون أن يجرؤ مرة على الاعتراض.
2
يحصل كثيرًا أن تربط بين شخصين صداقة حقيقية لا يأتيها الضعف من بين يديها ولا من خلفها تقوم على الاحترام المتبادل والتفاهم والثقة لكن ولأسباب منطقية يجد أحدهم يومًا أنه بات من الضرورة أن يأخذ مسافة من الآخر كإجراء حتمي للإبقاء على هذه العلاقة السامية وحمايتها من التصدع والموت.
بلا شك يصبح التفاوت في الإمكانات المادية مبررًا شرعيًا للقبول بصيغة جديدة لهذه الرابطة من باب أن أرضية التكافؤ أصبحت مفقودة وهذا لا يُصيبها في مقتل أو يفُتُ في عضدها بقدر ما يمنحها القدرة على الاستمرارية أو الولادة من جديد.
على الصديق الذي شاء الله أن «يبتليه» بالأفضلية أن يكون متفهمًا لماذا يرفض صديقه عزوماته المتكررة في مطاعم توصف بالراقية .. لمِ كل ذلك التوجس عندما يطلب منه مرافقته في مشاوير تبدو عادية جدًا .. لماذا يتردد مائة مرة قبل أن يقرر الاتصال الهاتفي به .. سبب تحفظه على البوح بما يعانيه من منغصات حياتية مثلما كان يفعل في الزمن الماضي.
3
يتخلص «أبو سليمان» من كل التزاماته وبأي صورة من الصور .. يعتذر عن أي موعد أو زيارة يُراد لها أن تتم بعد صلاة العشاء فهذا الوقت مُقدس بالنسبة له ولا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن يقضيه إلا في «الرمسة» اليومية التي يستضيفها كل ليلة بيت من بيوت الجيران .. يتهرب «أبو سليمان» بمهارة فائقة وحِيل مبتكرة من طلبات المنزل ويُعلن التزامه بتوفيرها صباح الغدِ حتى لا تفوته حكاية من حكايات «الرمسة» و«غشمرة» من «غشمرات» سلّيم بن علي التي أفقدته لتماديه فيها الكثير من أصدقائه وجيرانه الذين يزعلون منه لوقتِ قصير ثم يرضون حتى دون أن يعتذر لهم سلّيم بنفسه ولا أي شخص آخر.
«الرمسة» لا تعني لأبي سليمان وجبة عشاء فاخرة ولا «تقاديم» ولا استعراض لقدرات أيًا كان نوعها مالية أو ثقافية لأن الجميع متساوون في ذلك .. الجميع لا يقدم لضيوفه في مجلسه إلا «مدلاة القهوة» و«مكبة التمر» وماء الشرب.
«رمسة» الجيران اليومية تعني لهم اللقاء والترويح عن النفوس التي أثقلتها الهموم وتداول المشورة حول المعيشة واستعادة «سوالف زمان» التي لا تُقصُ بعضها إلا أمام أفراد المجموعة لأنها بمثابة الأسرار غير أن هذا الحال تغير منذ قدوم الجار الجديد وسكنه في المكان وانضمامه لاحقًا للجيران.
من باب التغيير «لا غير» قدم الجار الجديد في الجلسة الثانية التي استضافها في بيته الحلوى العُمانية مع بعض الفواكه وفي الثالثة قدم عشاءً خفيفًا «لم يخرج عن عشاء أهل البيت المُعتاد» وفي الرابعة تفاجأ الجميع بأنه طلب خروفًا مع «البرياني» من المطعم اليمني.
بعد هذه الجلسة بدأ السباق المحموم بين بعض الجيران من المقتدرين لإثبات أنهم قادرون على تجاوز الجار الجديد في تقديم الضيافة فتحولت «الرمسة» جلسة بسيطة غير مُرهقة إلى مصدرٍ لأزمات نفسية ومادية أجبرت البعض على العزوف عن حضورها.
عقب شهرين توقفت «الرمسات» كليًا واعتزل أبو سليمان وغيره من البسطاء ومحدودي الإمكانات حضورها .. قرروا التزام البيوت لأنهم لم يتمكنوا من إقناع بعض جيرانهم بالعدول عن استعراضاتهم ولم يجدوا سبيلًا للقاء يجمعهم خشية اتهامهم ببث الفُرقة في المربع السكني ... اكتفوا باللقاءات الفردية غير المنسق لها مُسبقًا والتحسر على أيام «الرمسة» التي أراد لها البعض ألا تستمر.
آخر نقطة
ثلاث تنقذ الرجل، أن يعرف ما يجب عليه أن يؤمن به، أن يعرف ما يجب عليه أن يرغب به، وأن يعرف ما يجب عليه أن يفعله.
توما الأكويني
