شايف البحر شو كبير؟!

18 فبراير 2023
18 فبراير 2023

«من جرحنا يبدأ البحر»

يانيس ريتسوس

مسقط: شرفة مفتوحة على سماء مهجورة تغرورق في بحر يهلوس ثم ينعس قبل أن يغرق داخل نفسه. والبحر: انعكاس بالغ البساطة والتعقيد لقسوة السماء القاحلة، إنه الحبر المرائي في القصيدة، لا يشِفُّ ولا يجِفُّ ولا يفي بغموض دهشتنا الباكرة كلما استقبلناه لأول مرة فرأينا ملامحنا القديمة وهي تغترب في مراياه المتشققة لنكتشف حجم الفارق الشاهق بين الشيء وصورته. فرادى نذهب إلى البحر في ساعة الحصار القصوى قبيل غروب الشمس. وها نحن، داخل هذه النظرة الأبدية الطويلة، نرمم ما انكسر فينا من قوة الحياة برغوة الرغبات الميتة التي تلفظها الأمواج على الشاطئ. ومن رغبة الكلمات في الدوران حول المعنى نحاول أن نومئ لشيء آخر، أن نصف البحر كما هو دون أن نعنيه بالضرورة، أن نصنع من الكلمات قوارب ورقية وتمائم قد لا يفهمها أحد لكنها تتسع لجميع النازحين وتحيا داخل أصواتنا صالحة للسكنى في ساعات الطوارئ. ثم ندير ظهورنا للبحر ونرجع من غربتنا فيه أكثر عطشا وبللا.

لم نصدقه من النظرة الأولى كما يفعل العاشق المحاصر بأكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر ساحلي، ولم نكذِّبه كعادة أمهات الغرقى المنتظِرات على حواف أرواحهن، بل اقتبسنا من صفاته غموضا يفضح خديعة البساطة المداهنة. ورحنا نفسره على حدة، كلٌّ بلغته وألوانه الخاصة: منظرٌ ملطخ بالظل والنور في لوحة الرسَّام. مشهد مؤلف من الحركة والسكون في السينما الصامتة. حوار موسيقي يتناغم بين الضجيج والصمت على مسرح الأوبرا. غير أن السائحة الشقراء لا تأبه لكل هذا التنوع المحير في التواصل مع البحر، فالكاميرا فائقة الجودة التي تحملها لا تستوعب إلا الجاهز والمرئي من تفاصيل المكان وهي تحاول أن تلتقط صورة عمومية لمشهد الناس الذين يفدون إلى الخلفية الزرقاء قرب رصيف مطرح البحري، لتتأملهم غدا بعيدا من هنا، في صورة مجففة الألوان تحت الشمس.

حين يجفو الشعر لغتي يصبح منظر البحر الكبير حبرا فائضا عن الحاجة، مشهدا مكررا ببلادة، يضاعف إحساسي بالوحدة والضآلة، فيتحول الأزرق إلى كآبة مكبوتة. وكما لو كنت أنتظر في الميناء الخطأ سفينة لن تصل، أجلس قبالة خليج عُمان حتى ساعة متأخرة من هذا الليل الموشوم بقمر شبه مكتمل. أقرأ سردا خفيفا عن مكان آخر بينما ترتفع رائحة الملح فوق كل شيء فتتكثف على الثياب وفوق منابت الجرح. أستمتع بهذا الهواء الملبد بمقدمات الصيف التي تداعب رغبة البكاء الحلو في داخلي. أصعد من قاع نفسي إلى السطح، موجة، موجتين، وأصعد مع آخر الناجين من مغبة هذه الزرقة. أرتقي على نَفَسي المتقطع جيئة وذهابا برجلين غائرتين في الرمل. أشخُص وأتجلى كالناجي من صورته، وأقف لأجلو الغبار وبقايا الدمع القديم عن زجاج هذه النظرة المحايدة باتجاه البحر.

ثمة بوصلة حيرى على مياه المحيط الهندي، ولكن ربما كان حدس العمانيين الأوائل، الذين وجدوا البحر أمامهم قبل تعلم السباحة، كان حدسهم أكثر ذكاء من البوصلة عندما كسروا حدود المدى وذهبوا أبعد في المحيط. لذا أفكر بهم وبنا وأسأل: هل تقلَّص حضور البحر في الشخصية العمانية الحية؟ هل عُزل البحر عنا أم عُزلنا عنه فأصبح مجرد منظر طبيعي معطل؟ هل كلنا سيَّاح أمام دهشة البحر؟ أنظر في الخريطة فأرى كيف تمارس الأمواج التي تتحطم على السواحل نحتها الدؤوب والدقيق الذي يخصِّر المضيق بين مسندم وبندر عباس. وكما تتراكم الطبقات الأرضية في جيولوجيا، أرى كيف يتراكم التاريخ المشترك بين الإنسان والحيوان على هذه الأرض جيلا بعد جيل في طبقات من الذاكرة المفتوحة على مهب الرياح الموسمية والمثقوبة بالهجرات الملحمية صوب الهند وشرق أفريقيا وبلاد فارس. أرى ملامح التعرية البطيئة التي تمحو تلك المفاصل الغامضة من تاريخنا النائي، من تاريخنا غير المرئي أحيانا والذي ما زال يبتكر طرقه في الاستمرار بصورة أو بأخرى في بعض النواحي الخفية من هويتنا على الأقل - أرى كل الأسرار التي يبوح بها البحر للبر على الخريطة دون أن أبصر أين تنتهي حدود المياه الإقليمية التي يجب أن يرتد بصري منها إلي. ولكن بوسعي أن أستعيد من المساحات الزرقاء صوت سالم علي سعيد الواقف على أطلال الأمجاد البحرية:

«لمن السفائن، والعُبابُ وراءها مثل الغبارِ؟

ومَن الرجال المبحرون بكل عزم واقتدارِ

العابرون جوانب الدنيا بأشرعة الصواري؟»