سقوط الغصن الأخضر!
06 سبتمبر 2025
06 سبتمبر 2025
لا بلاغة تصف إعلان الخارجية الأمريكية مؤخرًا حرمان كبار مسؤولي السلطة الفلسطينية، بمن فيهم رئيس السلطة نفسه، من تأشيرات السفر إلى الولايات المتحدة أكثر مما عبّر عنه مات دوس، النائب التنفيذي لرئيس «مركز السياسات الدولية» في واشنطن، واصفًا القرار الأمريكي بأنه «تجسيد مثالي لعقود من السياسة الأمريكية تجاه الفلسطينيين: سنعاقبكم على العنف، لكننا أيضًا سنعاقبكم على اللاعنف»! ففي انتهاك جديد للقانون الدولي و«اتفاقية المقر» التي وقعها الأمريكيون مع الأمم المتحدة عام 1947، يأتي قرار إدارة ترامب قبل أيام من انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا الشهر، في وقت كان فيه الوفد الفلسطيني برئاسة محمود عباس يتهيأ لصعود الطائرة إلى نيويورك لمناقشة القضية الفلسطينية والحرب على غزة، ولبعث النقاش الميت حول حلم الدولة من جديد، وسط وعود من دول عدة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وفي مقدمتها فرنسا.
بلاغة دوس تكمن في تبسيط المعقَّد: سنعاقبكم على العنف، لكننا أيضًا سنعاقبكم على اللاعنف... ولكم في التبسيط بلاغة يا أولي الألباب! تحدد هذه العبارة سلوك الإدارات الأمريكية المتعاقبة في تعاطيها مع الموضوع الفلسطيني بصورة عامة بعد «أوسلو» عام 1993، ومع فكرة «الدولة» بالتحديد، ومع احتماليتها مصدرًا للابتزاز في لعبة تشويق وتهديد. الإغراء الأمريكي بالدولة عبر هذا المسار اللولبي الطويل، الإغراء بشبح الدولة وفكرتها الممسوخة بالأحرى، كان قد قسم المشهد السياسي الفلسطيني، منذ ثلاثة عقود على الأقل، إلى خطين متوازيين متنافرين في التفكير والجغرافيا: حماس في القطاع، والسلطة الفلسطينية المنبثقة عن اتفاق أوسلو في الضفة. وبدلًا من الذهاب قدمًا نحو مشروع الدولة، أوجد مسار السلام الأمريكي المتعثر دولتين للفلسطينيين، دولة غزة ودولة رام الله، وفاقم من حدة الانقسام الذي بلغ ذروته من فجور الخصومة في عز الإبادة. وها هي الولايات المتحدة اليوم تعاقب من جديد دولة رام الله وتعزل قيادتها بجريرة دولة حماس في غزة، في حين يفشل الفلسطينيون -حتى في هذا الوقت المتأخر- في العثور على أدنى صيغة ممكنة من التحالف لمواجهة التعنت الإسرائيلي الأمريكي الذي يستمر في معاقبة الفلسطينيين ببعضهم البعض.
نبذت السلطة الفلسطينية العنف منذ إنشائها وأصرَّت على الإيمان بالشرعية الدولية. وهي التي لم تترك فرصة لإدانة هجوم السابع من أكتوبر إلا وأدانت مطالبةً حماس بتسليم سلاحها، مع ذلك لم تنجُ من تعسف العقوبات الأمريكية لأنها ذهبت إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية لمقاضاة إسرائيل على الإبادة المستمرة في غزة!
ولكن ألا يخشى الإسرائيليون من انهيار وشيك للسلطة في رام الله؟ المسؤولون في البيت الأبيض لا يخفون قلقهم من احتمال كهذا بسبب الضغوط المالية التي تواجهها مؤسسات السلطة في الضفة وعدم قدرتها على تسديد الرواتب. هذا ما أوردته صحيفة «ذا تايمز أوف إسرائيل» نقلًا عن مايك هكابي، السفير الأمريكي في تل أبيب، والذي حذَّر سموتريتش من خطورة انهيار السلطة الفلسطينية في هذا التوقيت وما سيترتب عن ذلك من تداعيات تهدد أمن إسرائيل.
غير أن إدارة ترامب تبدو ذاهبة بأقصى السرعة لإرضاء نتنياهو، فبينما تعاقب الطرف الفلسطيني الوحيد الذي ما زال يتشبث بالشرعية الدولية وينبذ العنف، تنزل عقوباتها بثلاث منظمات فلسطينية غير حكومية تتهمها بالعمل مع المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرة توقيف بحق رئيس الوزراء الصهيوني، في حملة واضحة هدفها إلغاء الصوت الفلسطيني من المشهد مهما كلَّف الثمن.
عبارة مات دوس البليغة لا تكفُّ أيضًا عن تذكيرنا بالشعار العرفاتي الشهير الذي خاطب به الزعيم الفلسطيني العالم لأول مرة من منبر الأمم المتحدة متقمصًا شخصية الشاعر الثائر: «لقد جئتكم يا سيادة الرئيس بغصن الزيتون في يدي، وببندقية الثائر في يدي، فلا تسقط الغصن الأخضر من يدي»... فما الذي يمكن قوله اليوم، بعد خمسين سنة، وقد تخلَّت منظمة التحرير الفلسطينية عن بندقية الثائر وها هي تصبح عارية حتى من الغصن الأخضر؟!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
