رسائل إلى رنا مصطفى

04 ديسمبر 2023
04 ديسمبر 2023

(1)

تلُحين على ذاكرتي كثيرا. كنتِ أول شخص أعرفه من فلسطين في طفولتي المبكرة. كان يرعبني أن تكوني من فلسطين، وأحب أكثر أنك من الأردن، كما تقول شهادة ميلادك التي كانت في حوزة المعلمة (كشهاداتنا التي تحتفظ المعلمة بنسخ منها). ولكنك لا تنفكّين تصححين لها ولنا: أنا فلسطينية.

لا أستطيع تخيّلك تقفين على مقربة من دبابة إسرائيلية، أو جندي بخوذة قبيحة مرعبة ويحمل سلاحا يوجهه إلى صدرك. كنتُ أستغرب إصرارك على الانتماء إلى مكان بتلك الغاية من الخطورة. ببساطة كنتُ أخاف أن يقتلوك إذا رحلتِ عنا. تقولين إنكم ستعودون يوما، فهناك مفتاح قديم تحتفظ به عائلتك، فيوجعني قلبي أكثر من دون أن أفهم. ما كنت أفهمه فقط أنك في خطر دائم كلما أصررتِ على إثبات أنك فلسطينية! لماذا لا تبقين هنا ببساطة، ويبقى أبوك معلما لإخوتي في مدرسة مازن بن غضوبة.

يعجبني أنك لم تكوني مختلفة عنا، أو خارقة كمعظم التلميذات اللائي يأتين من خارج عُمان للدراسة، فيتفوقن علينا ويخطفن المراكز الأولى. كنتِ عادية جدا، لا تحلمين بالتنافس على شيء ظاهر، كنتِ بسيطة ببساطة الحق في أن يكون للمرء مفتاح، يغذي حلمه بالعودة إلى بيت قديم تركه أهله حينا من الوقت وسيعودون إليه عما قليل، أشبه بنزهة قصيرة أو رحلة يفترض أنها لا تطول.

عندما قررتِ مغادرة عُمان، كنتُ أخشى أن تكون وجهتك إلى فلسطين، فلم أخفِ سروري عندما أخبرتِني أنكم ذاهبون إلى الأردن. قلت لك وفي صوتي نشوة انتصار: أرأيتِ؟ أنت أردنية. لم تأبهي بسذاجة طفلة لم تختبر شيئا بعد. لا أقول إنك تدركين بأن الوطن لا نسافر إليه بالضرورة، وأن العودة ليست سوى قدر مؤجل. أعرف أن كل هذا لا يمكن أن يكون في وعي طفلة كنتِها، ولكني أدرك الآن على الأقل أنكِ عرفتِ قبلنا جميعا معنى أن يُحمَل الوطن، وإن كانت العودة إليه تعني أن نموت غدرا وظلما ووحشية.

ثلاثون عاما مضت على ذلك الرحيل، ولا أعرف إن كانت الظروف قد سمحت لك باختبار فاعلية المفتاح القديم، أم أن الحلم لا يزال مؤجلا. أود لو أسألك الآن عن عدد الأبواب التي حاولتِ أن تجربي المفتاح في أقفالها؟ أتراكِ حاولتِ، كما أتخيلك، تديرين المفتاح في قفل باب كل بيت أقمتِ فيه؟ أخالني سأفعل لو كنتِ مكانك؛ لعل أحدها يكون الباب الحلم الذي يأخذني في غمضة عين إلى بيت الأجداد. رأيتُ شيئا كهذا، أقصد قرأتُه، في رواية «شهادة وفاة كلب»: ينفتح باب على بيت فلسطيني كامل، صُمِّم حسبما حفظته ذاكرة أهله ليعيشوا حياة لم يعيشوها. هل خطر لك يوما أن تتخيّلي البيت القديم وتصطنعيه؟ أعرف أن الفكرة في ذهنك دائما.

(2)

أردتُ أن أخبركِ بأنني في مطلع أكتوبر الماضي (2023) كنتُ في معرض الرياض الدولي للكتاب، وجمعتني المصادفة في السيارة التي أقلتنا من الفندق إلى المعرض بروائية جزائرية اقتعدت الكرسي الخلفي إلى جواري، كانت الروائية سارة النمس، وفور وصولي إلى المعرض اقتنيتُ رواياتها الثلاث من دار الآداب. إحداها كانت ممنوعة، ولكني حصلت عليها على سبيل الإهداء من الناشرة رنا إدريس. أحببتُ أن أقرأ منجزها بتسلسله الزمني، فبدأت بأولى رواياتها عن دار الآداب (لها أعمال قبلها لدى ناشر آخر). كان عنوانها «ماء وملح» ولكن بعنوان فرعي «رسائل إلى أسير فلسطيني». كنتُ أتخيّلك سلمى طوال الوقت يا رنا. أنستني الرواية أن كاتبتها جزائرية وليست فلسطينية، ما عدا جملة واحدة وددتُ لو أنها لم تكن موجودة، عندما قالت عن كلمة ما إنها تُنطق في بلاد المغرب بالطريقة الفلانية. تفصيل لم يكن له داعٍ بالنسبة لبطلة تعيش همًّا داخليا ولم تخرج من قطاع غزة المحاصر قط، سوى أنه يذكرني بأن الكاتبة من بلاد المغرب. ولكني عرفتُ أكثر أيَّ معاناة يعيشها الغزّي، وأي عذاب يتكبده من ينشطر بين جسده في غزة، وقلبه في الضفة الغربية. ولكنها حرّضتني على كتابة هذه الرسائل لك من دون أن أعرف لك عنوانا، على عكس سلمى التي كانت تعرف مكان فارس في السجون الإسرائيلية؛ تصله رسائلها سرا، ويقرأها سرا، ويحتفظ بها بمشقة كي لا يفقد أسباب الصمود، وتساءلتُ عن المجازفة الجميلة التي أقدمتْ عليها سارة النمس بأن جعلتنا نعيش تفاصيل مكان لم تكن يوما منه.

كنتُ بطيئة في القراءة، هذا ما صرتُ عليه مؤخرا. ثم ما هي إلا أيام حتى اندلع طوفان الأقصى. هل أقول لك: إنني تعذبت مرتين؟ كنت أشاهد القصف على الشاشة، وأقرأه في الرواية. لم أعرف أين أهرب؟! والهرب في ظرف كهذا خيانة. يقولون: إن من يتعرض للألم المباشر يكون أقوى على مواجهته ممن يتابعه، أيكون هذا حقيقيا؟ أين أنتِ الآن؟ هل تتعرضين له مباشرة، أو أنك تتابعينه بألم مضاعف؟

عندما رحلتِ من عُمان، كنا أبعد من امتلاك وسائل التواصل عدا الهواتف الأرضية، فلم نحتفظ بخيط وصال لأزمنة لاحقة. كانت المغادرة في زمننا ذاك، في التسعينيات، تعني الانقطاعَ الأشبه بالموت عندما يقرر أحدهم الرحيل النهائي. هل تتذكرين تلك الطفولة يا رنا؟ تحيتنا للعلم في طابور الصباح. تصدحين بالسلام السلطاني بملء فؤادك وفي الخاطر نشيد مخنوق؟ الآن أستعيد حركاتك وسكناتك وقد صرتُ أفهم. أراك بوضوح كما لم أرك من قبل. دعيني أرجّح أنك في التاسعة والثلاثين في عمرك الآن، ولعلك أصبحتِ أمًّا. يريحني احتمال أنك ما زلتِ في الأردن لم تغادريها، فلا أريد أن أتخيّل شيئا آخر، وأنك ستقرئين رسائلي هذه وقد تقررين الرد عليّ في هذه الصفحة نفسها من جريدة عُمان. هل سيشدك العنوان عندما تقرئين فيه اسمك؟ أرجو ذلك، فذلك أدعى لأن تقرئي الرسائل كاملة، وأمنّي النفس برسالة واحدة فقط، تقول إنك بخير.

(3)

قبل يومين مررتُ على البقالة لأشتري غرضًا ضروريا، فوجدتُ خمسة أطفال من أعمار متقاربة، فخمنتُ أنهم أولاد عم أو أولاد خالة، يتوزّعون في أرجاء المكان ثم يعودون إلى نقطة تجمُّع واحدة قريبة من طاولة المحاسب، ليتساءلوا فيما بينهم عما إذا كانت هذه الحلوى أو تلك تدعم إسرائيل قبل أن يقرروا ضمّها إلى سلتهم الصغيرة. ابتسم قلبي للمشهد الذي تكرر في كل البيوت. المقاطعة مستمرة يا رنا، هذا ما نملكه الآن، ولكنها أصلب من أي وقت مضى. لقد تغيّر العالم بعد السابع من أكتوبر، لم يعد شيء كما كان، وأحسب أن التضحية التي يقدمها الفلسطيني أمام أنظار العالم لا يكافئها سوى الخلاص القادم لا محالة.

ولكن الفلسطيني لا يقدّم التضحيات وحسب، بل الهدايا أيضا؛ فبعد أسابيع من اندلاع طوفان الأقصى، وتحديدا بعد أيام قليلة من مجزرة مستشفى المعمداني، تلقيتُ هدية من الحكواتية الفلسطينية دينيس أسعد، أرسلتْها لي مع الصديقة الحكواتية العمانية ميثاء المنذري. كانت عبارة عن طبق من الرخام الفلسطيني الأزرق مقسّم إلى أجزاء. أحببته كثيرا وتخيّلت الغرابة: أن الفلسطيني رغم محنته ما يزال يرسل هداياه إلى الآخرين. سعادتي بالطبق تشبه سعادتي بالصدَفَة التي أهدتني إياها دينيس أيضا عندما زارت عمان قبل عام، كانت صدَفَة من شاطئ حيفا كَتبتْ عليها «لمنى مع الحب»، وعلى وجهها المقعّر كتبت «حيفا». لقد أصبحت لديّ قطعة من فلسطين، من بحرها ورائحتها، أحملها في السيارة أنّى ذهبت كشيء يصلني بكل من عرفت في فلسطين، وأولهم أنتِ يا رنا.

أتخيّلك ستردّين على هذه الرسائل كما فعل مريد البرغوثي قبل أكثر من عشرين عاما، عندما قرأتُ كتابه الجميل «رأيت رام الله»، فعثرتُ على بريده الإلكتروني في الصفحة الأخيرة، ولم أتردد في مراسلته رغم توقعي بأنه قد لا يرد. أتذكر جهاز الحاسوب الذي جلست أمامه في المكتبة الرئيسة في مقرها القديم بالجامعة. كتبتُ له أنني رأيت رام الله معه. لا تتخيّلين سعادتي عندما وجدت رده بعد أقل من ساعتين. جاء في الوقت الذي كنا ما نزال نعتقد بأن التواصل بين الكاتب والقارئ يندر الحدوث إلا عبر كتاب. في مرة لاحقة تجرأتُ وأرسلتُ له قصيدة نثر. أرأيتِ جرأتي؟ كتبتُ قصيدة لمريد وأنا التي لا تكتب الشعر، ولكنه رد عليّ أيضا. كانت تلك دهشتي التي لا تُنسى يا رنا، فهل ستردّين عليّ بعد أسبوع أو أسبوعين أو عام أو عامين؟

أريد أن أخبرك أخيرا بأني حصلتُ على الكوفية الفلسطينية. اشتريتُها بثلاثة ريالات فقط من جمعية دار العطاء في الأمسية التضامنية مع غزة في النادي الثقافي في منتصف أكتوبر الماضي. كل رمز من فلسطين يسند قلوبنا المتعبة هذه الأيام يا رنا، يعيد إلينا اطمئناننا من أنفسنا، ويربت على قلوبنا التي ما زاغت يوما عن الهمّ الأول. مؤخرا قرأت عبارة جميلة للشاعر العماني سالم الرحبي أريد أن أختم بها رسالتي هذه. يقول: «إن العماني «المحايد»، العماني «المسالم»، العماني «الصامت»، العماني «الهادئ» الذي كرّس هذه الصفات والانطباعات عن صورته في العالم «...» هو نفسه العماني الحاد والصارم والمنحاز الصارخ عندما تتجه بوصلة الرأي العام إلى القضية الفلسطينية، إلى الحد الذي تتصدر فيه القضية الفلسطينية همّ الرأي العام على حساب قضايا مهمة وشديدة الحساسية محليا كانتخابات مجلس الشورى».

صديقة طفولتك/ منى