ذكرياتٌ فلسطينية في عَمَّان

18 يونيو 2022
18 يونيو 2022

باستثناء الأعباء الدراسية التي بدأت تتراكم، كانت الأجواء مع احتضار صيف العام 2017 مهيأة للدخول في متاهة مشوقة أستعيد عبرها قطعة من الزمن الفلسطيني النائم. في ذلك الوقت وصلت تذكرتي لزيارة عمَّان إثر دعوة لتمثيل السلطنة، برفقة شاب وشابة آخرين، في "لقاء شباب العواصم العربية" الذي تنظمه العاصمة الأردنية. كنت خارجا من حكايات غسان كنفاني إلى أوراق بسام أبو شريف، ومن حصار بيروت في "مديح الظل العالي" لمحمود درويش إلى "خارج المكان" لإدوارد سعيد. وخارج المكان كنت وحدي أبحث عن المكان المحرَّم والمحروم إلا من الذكرى، عن هواء حي يحملني إلى أقاصي احتمالات الحُلم. فبدا لي الأردنُ نقطة التماس الأقرب مع واقعية الحُلم، حيث أستطيع أن أشير بيدي وأقول إنها هناك: فلسطين على الضفة الأخرى من البحر الميت.

لم أكن حينها قد تعرَّضت لما يدلني من الشعر على تلك البلاد، كنت أنتمي إلى شعرية تاريخها الدموي القريب لا إلى شعرها، لكن بوصلة الطائرة وأنظمة الملاحة الحديثة ليست بحاجة إلى الشعر ليدل الطيَّار مدرجه على مطار الملكة علياء تحت غيوم الظهيرة. في عمَّان، كان أمجد ناصر وحده آخر البداة العارفين بمفاتيح هذه المدينة الآخذة في حداثتها الزجاجية التي تزاحم البيوت المطرزة بالحجارة البارزة وهي تتصاعد درجاً فدرجاً في تلال البصر. كان ابن الرمثا المقيم تحت سماوات لندن آنذاك دليلي السياحي واللغوي على خارطة المكان. صوت جهوري صاعد من قصيدة النثر المشهورة بهمسها في كتابات النقاد، لا يستطيع القلب أن يَميز أردنيته القُحة من فلسطينيته، حتى يصطلح قُراؤه في النهاية على عربيته وحدها. أرفع وجهي المدفون في صفحة القصيدة فتفترش أمامي الشوارع المرهقة من العملة الصعبة والسعاة المنهوبي الوقت. أتعلم القراءة للمرة الأولى وأنا أتهجى اللوائح المُتربة لأسماء قرى هامشية في طريقي إلى الفندق. قلت في سري: هكذا أزور اللغة، في أرضها وتحت سمائها.

ثمة صوت فلسطيني يتلفت من حولي وأنا أسير في الحارة المتاخمة للفندق على قدمين لم تبردا بعد من أرق المسافة بين مسقط وعمَّان. أتجول مساءً بين البيوت فتدهشني ألفة المنظر المكرر لزوجين يشربان الشاي ويدخنان على الشرفة في عطالة العصر(في بلادنا لا نألف الشرفات). كنت أفعل ما يفعله أي تلميذ فضولي في رحلة مدرسية إلى المتحف، بحثا عن شيء ما... لا، بحثا عن شيء واحد بعينه؛ عن هالة الفدائي الغائبة عن المكان منذ "أيلول الأسود" عام 1970. أكتشف الآن، في هذا الليل الذي يهبط في قلبي على بُعد خمس سنوات من ذلك اليوم ومئات الكيلومترات عن ذلك المكان، أنني كنت أصطحب جان جينيه من وسط عمَّان إلى مدينة الملك حسين للشباب، سائراً على هدى "الأسير العاشق" وأسيراً لخطاه الأسيرة. كنت أنسَلُّ من بين الشباب العرب المتحلقين حول طاولات النقاش لأختلس دقائق من الوحدة أمارس فيها أصعب المقاربات البصرية بين واقع المدينة الجديد وصور بالأبيض والأسود لفدائيين يحملون بنادقهم في الأسواق وعلى نواصي شوارع "هانوي العرب" كما أسماها وصفي التَّل. متأخرا خمسين عاما عن الوقيعة كنت أحاول بعث "الأسير العاشق" على قدميه لملاحقة الظل النحيل لحامل الكلاشينكوف في زيه الحربي، الذي يعبر بخفة قطَّاع الطرق من شارع لآخر قبل أن يختفي بسرعة في أحراش جرش وعجلون، قبل أن تنال منه العين أو نقبض على اسم له أو هوية عدا فلسطينيته الغامضة.

في اليوم التالي زرت حلاقاً في العبدلي، أدركتُ من لهجته أصوله الفلسطينية. كان الشاب ينحدر من عائلة هُجِّرت من الضفة الغربية بعد حرب 1967، عبرتْ جسر الملك حسين باتجاه الأراضي الأردنية حتى استقر بها المقام هناك من ذلك الحين، ومع السنوات حصل أبناؤها على جوازات سفر أردنية. لم يفاجئني ذلك الشاب بصراحته حينما قال إنه لا ينوي العودة إلى فلسطين حتى لو تحررت صباح الغد. المفاجأة كانت أن توقيت وجودنا في عمَّان يتزامن مع انطلاق معرضها الدولي للكتاب. عرضت الفكرة على الحلاق فقال لي بكوميديا فلسطينية نادرة: لم لا... لعلك تلتقي بنايف حواتمة هناك وتسأله ما بدا لك عن أيلول الأسود وأيلول الأبيض! ولأن وقت إقامتنا بدأ يضيق، لم أجد بدا من التخلف عن اللقاء الذي رُتب لنا مع وزير الإعلام الأردني، فركبت سيارة أجرة إلى المعرض. خيبة أمل، كانت الحركة في المعرض فاترة للغاية، وطبعا لم أعثر على نايف حواتمة!

كانت الصحراء الأردنية التي خبِرها "لورنس العرب" إبان الثورة العربية الكبرى تعبر من خلالي عبر نافذة الحافلة التي تقلنا إلى البتراء. وفي زاوية ما من هذا الكون المتطرف الأنواء والطبيعة البرية الشرسة سيعيد المخرج الإنجليزي ديفيد لين مسرَحَة الملحمة التاريخية في فيلم سينمائي، وتحت نجوم هذه السماء القاحلة في ظهيرة سيبيت بيتر أوتول وعمر الشريف وأنتوني كوين أطول لياليهم على الإطلاق. قال جان جينيه: "ينبغي صونُ جميع صور اللغة واستخدامها، إذ هي كائنة في الصحراء، حيث ينبغي الذهاب للبحث عنها".

وفي غيبوبة السرحان تلك حطت إلى جانبي زميلة أردنية في مثل عمري بالضبط، وكنا قد تحدثنا من قبل. هذه المرة كنت أحاول جرَّ الحديث للسؤال عما دار في مدينتها عام 1970، ما الحكاية التي ورثتها، وكيف يعيش فلسطينيو الأردن اليوم داخل ذلك الجرح الذي لا يبرح الوجدان والذاكرة؟ إلا أنها كانت بارعة في الانصراف عن أسئلتي الثقيلة بتهذيب. كانت سعيدة بالحديث عن طموحاتها ومستقبلها في دراسة التمريض، دون أن تدرك هذه الفتاة التي تستبق مستقبلها بأن الجالس إلى جوارها كان يتأخر عن حاضره أياما، بل سنوات ليبحث عن الأثر.