"خزي"

26 يونيو 2022
26 يونيو 2022

ستصاب كقارئ بالدهشة وأنت تتوغل في أجواء رواية "خزي" للروائي الجنوب إفريقي الكبير "ج . م كويتزي" صاحب أيقونة "عودة البرابرة" الشهيرة وشخصياتها ليس بسبب قدرتها على الاستحواذ عليك أو لكون كاتبها حائزا على جائزة نوبل في الأدب عام 2003 أو لأن الرواية نالت جائزة البوكر في العام 1999 فقط إنما لسبب آخر تمامًا وهو حساسية فكرة الموضوع الذي تطرحه.

موضوع "خزي" الأساس كان تأثير سياسة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا "الابارتيد " على حياة المجتمع وما نتج عن هذه السياسة من تصدع في النسيج المجتمعي الجنوب إفريقي لكنني لست معنيًا هُنا بذلك إنما سأتناول جزئية محددة تتصل بالجانب الإنساني لبطل الرواية البروفيسور الجامعي "ديفيد لوري" الذي جاوز سن الخمسين ويقوم بتدريس مادة الاتصالات.

الدكتور "لوري" يتورط في علاقة مع إحدى طالباته كلفته سمعته الأكاديمية ومكانته الاجتماعية واستقراره النفسي مما جعله يشعر بالخزي والتقزم والضعف ... يسقط المدرس سقوطًا مدويًا بسبب افتتان جارف لم يتمكن من إيقاف جنوحه فتحول بسببه إلى شخص منبوذ ومطارد من أقرب الناس إليه وهي زوجته.

وأنت تتبع شخصية البروفيسور شديد الإعجاب بالشاعر الانجليزي "وورد زوورث" والذي يُعِد كذلك لكتاب حول "بايرون" عندما تتقصى حياته "ما بعد السقوط" تتخيل أنك أنت هو من سقط .. أنك المدرس الذي كان مصدر إلهام لطلابه وزملائه هارب من مدينتك التي بها سكنك الراقي بسبب الفضيحة المُدوية إلى الريف البائس حيث الفقر وسطوة عصابات القتل والمخدرات لاجئا إلى ابنة لها حياتها الخاصة والمختلفة لا ترحب بك كثيرًا وتُضطر أنت بسبب حماقتك للقيام بأعمالِ وضيعة لا تتناسب ووضعك الاجتماعي والتعليمي تقوم بها ليس إلا هروبًا من الواقع وقتلًا للوقت، حتمًا أفضل تصوير لشعور ممكن أن تُحسه حينها إنك ضئيل وضعيف اقتحمت عليك حياتك كارثة كبيرة دون وعي ولا أدنى توقع.

سيجتاحك شعور بألم مرير خفي يخترق صدرك وبالعالم يضيق حتى تكاد تختنق .. ستتساءل بعد دمار مالطة: هل كان ذلك التصرف الأرعن أو النزوة يستحق كل ما نتج عنه من دمار؟ هل استحق أنا ذلك؟

إذًا الخزي هو حالة من الشعور العميق بالذُل والانكسار والمهانة يصعب التخلص منه أو حتى نسيانه لأن الجميع يرفض قبول الأعذار .. الجميع عندئذ يتحولون إلى قُضاة مهمتهم البحث عن أقسى عقوبة لمن يعتبرونه مُجرمًا دون أن يُكلفوا أنفسهم عناء البحث عن مُبررات وإن كانت إنسانية.

وإذا كان خزي البروفيسور "لوري" جاء نتيجة تصرفه "غير المقبول" ممن حوله بسبب عُمره ومكانته فإن بيننا ممن يتصرفون تصرفات مشابهة بطريقة مقصودة أو عفوية جميعها تخلف حالة من الانسحاق والدخول في عالم من الضياع، أناسُ كُثر تورطوا في علاقات مشبوهة مع أشخاص أو منظمات غير قانونية من خلال منصات التواصل أدخلتهم في متاهات الابتزاز وآخرين سقطوا بسبب الفساد وسوء استخدام المال العام والبعض الآخر زج بنفسه في مغامرات مالية أدت به إلى فقدان هيبته ووظيفته ودخل إلى السجن وما أدراك ما السجن وغياهبه.

الطبيعي أن الغالبية منا لا يعرف وحشة السجن وأن يومًا واحدًا فيه تعادل سنة وسنة تعادل عمرًا بكامله .. لكن ليتخيل أيُ منا أنه الآن وحيدًا بين أربعة جدران محدود الحركة لا يرى أبعد من رجليه لا يكلم أحدًا لا يتنفس هواءً نظيفًا لا لا لا لا .. مع ما يتبع ذلك من عارِ لا يزول وفضيحة لا تُنسى بعد أن كان حُرًا ! .. إذا تخيل ذلك فقط لمجرد التخيل أعتقد أنه سيفكر كثيرًا قبل أن يقوم بأي خطوة قد تجره إلى الهلاك.

آخر نقطة

إذا كان الحكي طبعك

أنا عندي السكوت أثمن

عبداللطيف البناي