حياة بالعنّابي والأزرق

28 أغسطس 2023
28 أغسطس 2023

يحدث أن نتخيّل لكل مرحلة من مراحل حياتنا ألوانا تناسبها، ونستعيدها لاحقا كارتباط شرطي دون وعي منا أحيانا، تماما مثلما تفعل الرائحة عندما تلتصق بذكريات الأمكنة والوجوه، وتصبح محاولة الفصل بين اللون وما اقترن به ضربا من ضروب محو الذاكرة.

في هذه المساحة سأتحدث عن اللونين العنّابي والأزرق اللذين اقترنا بشخصيّتين مقربتين خلال مرحلة المدرسة والمرحلة الجامعية الأولى، دون أن يكون لهذا الاقتران تجلٍّ ظاهر، ولكني سأتحدث عن هاتين الشخصيتين من أجل البحث عن سبب هذا الشرط اللوني الذي اقترن بهما.

أما الشخصية الأولى فهي وداد، وذلك عندما جلستُ حيث طلبت مني المعلمة أن أجلس في أول يوم لي في المدرسة، لأكتشف فتاة مبتسمة بودّ لا يخفى تجلس إلى جواري. ربتت بإصبعها الصغير على كتفي وقالت: "لماذا تبكين؟ هل تريدين شرب الماء؟" وقدمت لي "مطّارتها" العنابية لأشرب. تفاجأت أن وداد لم تتلقَ النصائح التي تلقيتها بألا تسمح لأحد بالشرب من المطّارة كي لا تنتقل إليها الجراثيم. كانت سخيّة بشكل مفاجئ، فيما بدت لي مطّارتها باردة جدا. سأتذكر على الدوام تلك المطّارة العنابية وأبحث عن مثلها في السوق من غير أن أوفّق في الحصول عليها. ولم أعرف كيف تبقى مطّارة وداد عامرة بالماء وباردة حتى نهاية اليوم وهي تسارع إلى مدّها لكل فتاة عطشانة؟!

سترافقني وداد أيضا في بداية مرحلتي الجامعية؛ عندما كان عليّ أن أذهب باكرا حتى أضمن غرفة معها بعدما قُبِلت في كلية الهندسة، ولكي لا أضطر إلى السكن مع فتاة لا أعرفها في مجمع سكني جميع غرفه مزدوجة، وخصصت لطالبات الدفعة الجديدة، قبل أن ينتقلن في سنوات لاحقة إلى مجمعات سكنية أخرى توفر ميزة الغرف الفردية. أخذني أبي يومها باكرا مع أختي بشرى التي سبقتني بعام في المجمع السكني نفسه، فوجدنا وداد وأباها وأخاها حمد قد سبقونا وحجزوا غرفة لنا؛ وداد وأنا، في المبنى رقم 2، فأعفونا من قلق البدايات الذي ظننته يزول مع الوقت، ولكني وجدته مقيما يبدّل أسبابه ليس إلا.

في قاعة الاستقبال في المجمع السكني، كانت المشرفة سامية باصدّيق تأخذ البيانات من وداد وأبيها وأخيها وتسألهم تعبئة استمارة فيها خانات كثيرة ظننتُ -عندما حان دوري لتعبئة استمارة مثلها- أنها لن تنتهي أبدا. كان أبي حريصا على مراجعة بياناتي معي، وسرّني أنه أخيرا تعرّف إلى والد وداد بعد صداقة جمعتني بها منذ يومنا الأول في الصف الأول الابتدائي. تبادلا معا أحاديث شتى، وأحسب أنهما كانا مطمئنَين إلى وجودنا معا. وصَّيَانا ببعضنا كثيرا قبل أن يقفل كلٌ منهما ومن معه عائدين إلى سمائل. لاحقا أصبح الاثنان وأولادهما يوفرون من كل شيء نسختين، ويزوّدوننا بما تحتاجه الواحدة منا وكأن اثنتينا طلبناه، حتى غدت غرفتنا من الغرف التي لا تنفد منها المشتريات قط، ولا تنقطع عنها الإمدادات.

خططتْ وداد أن تكون مهندسة وحققتْ ذلك الحلم عندما قُبِلتْ في كلية الهندسة، وخططتُ أن أكون معلمة رياضيات ولكن كلية التربية لم تقبلني، وقُبِلتُ في كلية الزراعة والعلوم البحرية. لم أكن سعيدة بهذه النتيجة، عكس أبي الذي كان يعتقد أن ابنته حين تتخرج من كلية الزراعة ستكون مفيدة لمزرعته الشاسعة، ولكم وددت أحيانا لو بقيت فيها لتحقيق رغبته ولم أتحوّل إلى كلية الآداب، ولكن أليس الأدب أيضا ما جعلني قريبة إليه؟

يسمّون الأيام الأولى لنا في الجامعة "الأسبوعَ التعريفي"، وهو أسبوع يسبق البداية الفعلية للدراسة لإتاحة الفرصة للطلبة الجدد للتعرف على الجامعة وأنظمتها وطبيعة الدراسة فيها، ولكنه أسبوع "الصعايدة" أيضا. لم يسلم طلبة دفعة جديدة من لقب "الصعايدة"، بسبب جهلهم بمرافق الجامعة المترامية ومداخل القاعات ومخارجها؛ كأن ينوي أحدهم الذهاب إلى كلية العلوم مثلا فيجد نفسه في إحدى قاعات كلية التربية، أو يكتشف الفتى الجديد أنه يسير في ممرات الطالبات وحيدًا وسط غيمة من العباءات السود أو العكس، ولا ينقذ الواحد/ الواحدة من موقف كهذا سوى مخرج جانبي أو ممر عساه ينتظم بعده في مساره الصحيح.

في أسبوعنا التعريفي ذاك جرّبنا المشي الطويل كما لم يسبق أن فعلنا حتى تورّمت أقدامنا وتمزّقت أحذيتنا؛ بسبب أننا ننوي الأوبة إلى المجمع السكني مثلا فنجد أنفسنا أمام برج الجامعة، أو بسبب التزامنا الأخلاقي بمرافقة بعضنا إلى كلياتنا المتباعدة؛ أرافق وداد إلى كلية الهندسة، وترافقني إلى كلية الزراعة، ونفقد البوصلة بين الكُليتين في متاهة كليات شتى، ويضيع طريق العودة إلى السكن. في أسبوع لاحق سنعرف مواصلات الجامعة الداخلية التي تقل الطالبات بين المجمعات السكنية والكليات، ونحسب أنها واحدة من النعم العظيمة.

في أسبوعنا التعريفي يرشدون طلاب الكليات العلمية الذين اجتازوا امتحانات تحديد مستوى اللغة الإنجليزية إلى مخازن كلية العلوم لتسلّم كتب في الرياضيات والحاسوب مما سندرسه في الفصل الأول، وهنا سأتذكر صديقتي بدرية التي سترافقني حتى لحظة التخرج -وهي الشخصية الثانية التي ستقترن فيما بعد باللون الأزرق-

وأنا يروق لي أحيانا أن أقرن المواسم والناس في حياتي بألوان خاصة، فقرنتُ بدرية بهذا اللون الأزرق، كالسماء التي لطالما طالعناها بينما نسير بين مباني الجامعة وقاعاتها، وكشاشة هاتفها النوكيا التي كانت تومض في المحاضرات والأمسيات على الوضع الصامت، واقترنت وداد عندي باللون العنابي، ففي الشتاء الماضي أهدتني معطفا عنّابيا، فتذكرت مطّارتها العنّابية وصداقتنا الأولى في مطلع تسعينيات القرن الماضي.

مع بدرية درست فصلا بفصل طوال أربع سنوات، وتحوّلنا معا إلى كلية الآداب، ولم نفترق في مقرر قط، ما جعلني أتساءل: إلى أي حد رغبت بدرية في كلية الآداب؟ أكانت تريدها حقًّا أو أنها أرادت صحبتي وحسب؟ لم يسبق أن سألتها هذا السؤال، ولكني أود أنها ليست نادمة.

في بداية تحوّلي لكلية الآداب، انسقت -في أوقات الفراغ- وراء شغف حضور محاضرات التخصصات الأخرى وجلسات النقاش التي تقيمها الكلية، وفي إحدى تلك المناسبات كان النقاش ساخنًا عن واقع طلاب الكلية، وأسباب تحويل الذين يخفقون في كلياتهم العلمية إلى كلية الآداب. وحضر النقاش مع الطلاب عدد من الأكاديميين وأعضاء الهيئة الإدارية. أدار الجلسة بكفاءة لافتة يومذاك طالب من قسم الإعلام في سنته الجامعية الأخيرة، سيصبح لاحقا مذيعا في تلفزيون سلطنة عمان ومقدما لعدد من البرامج الثقافية، ثم مديرا عاما لإذاعة الوصال، إنه الإعلامي سالم العمري.

سأخبر وداد في نهاية كل يوم بما يفوتها من فعاليات مبهجة، وتخبرني بأحداث يومها تفصيلا بتفصيل. تشاركت معها غرفة سكنية واحدة في عامنا الجامعي الأول قبل أن تستقلّ كلٌّ منا بغرفتها في العام التالي، بعد أن اختلفت جداولنا ومواعيد أوبتنا إلى السكن. تذاكر وداد كثيرا في حين نستمتع بدرية وأنا بحياة الجامعة أكثر. ولكن ذلك لم يكن ليعيق تخرجنا ثلاثتنا في عام واحد.

اليوم كلما تذكرت وداد عنت لي مطارتها العنابية، وكلما شاهدت بدرية ازرقت السماء من حولي. نحن لا نتذكر روائح البدايات وحسب، ولكن ألوانها كذلك، وقد كانت حياتي، لا سيما مرحلة الجامعة، علبة ألوان كاملة، أمزجها فتمنحني لونا جديدا في كل مرة، كفصل ربيع في حياتي، كما يقول أستاذي الجزائري حوّاس برّي: "سنوات الجامعة هي ربيع العمر"، وقد كانت ربيعا حقا.