حلقة الجحيم السابعة!

17 أبريل 2024
17 أبريل 2024

عنوان مخاتل لمؤلف موسوعي تحدثنا عنه مرتين، فهل يستحق مزيدًا من الحديث وتناول كتابه الثالث؟ هذا ما سنتعرف إليه عن قرب في مقالتنا لهذا اليوم. تهدي الحياة للمرء جوائز وإشارات على غير استعداد وترقُّب، فيفاجأ بأن الحياة تعطيه ما كان بحاجة إليه حقا، ولا يحدث هذا في شيء دون الآخر فحسب؛ بل في شتى المجالات، ولأننا نتحدث عن كتاب في هذه المقالة، فليكن حديثنا ومثالنا عن الكتب إذن. كثيرا ما يحدث للقراء نفور من القراءة -أكان طويلًا أم قصيرًا- فيريدون القراءة ويتوقون إليها بشدة، ولكن النفس تشعر بالصدود من القراءة في تلك الفترة وكأنما ملأها صاحبها أكثر مما ينبغي، فتاقت إلى الطبيعة والحياة اليومية تستجمع أنفاسها.. ثم يقع الكتاب المناسب في الوقت المناسب في اليد المناسبة، فتنجلي تلك الغمامة الكثيفة كأنها ليست بشيء منذ البداية؛ هذا ما فعلته بي سلسلة «تاريخ الأدب المنسي» للإسباني المذهل سانتياجو بوستيجيُّو.

تحدثت في المقالتين السابقتين عن الجزأين الأول والثاني من السلسلة، ونشرتُ المقالتين في جريدة «عمان» بعنوان «حياة الكتب السرية» ثم «دماء الكتب» على التوالي، وربما غفلت عن ذكر أمر مهم عن هذه السلسلة، وهي إنها مترابطة في موضوعها الكلي ولكن يمكن قراءة جزء منها دون الآخر وعلى غير تسلسل مرتبط بالأجزاء وعددها، فكل جزء منها ذو وحدة متكاملة غير محتاج إلى جزء آخر لإكماله.

منذ البداية، يتحدث المؤلف في استهلاله عن «صيغ الجحيم المتعددة في الأدب» في إشارة ضمنية إلى إدراكه بأن هذا الكتاب سينتقل عبر الثقافات ولن يظل محصورا في أوروبا بثقافتها المرتبطة بالجحيم، أعني جحيم دانتي. ففي أوروبا، يرتبط ذكر الجحيم بالشاعر الإيطالي دانتي أليجييري وكتابه الضخم «الكوميديا الإلهية»، والذي شكَّل أساسا من أساسات الثقافة الغربية، كما هي أهمية الحماسة لأبي تمّام أو رسالة الغفران للمعري عند العرب. وسيجد القارئ ملخصا قصيرا جدا عن جحيم دانتي في الصفحة الثالثة والسبعين بعد المائة من هذا الكتاب، والذي يتحدث فيه مؤلفنا في ذلك الفصل عن فيرا كاسباري الأمريكية المتعاطفة مع الشيوعية -قبل أن تزور روسيا فحسب، ثم انقلبت تماما بعدما رأت الحقائق في الواقع الروسي- وما فعلته لها «اللجنة البرلمانية للأنشطة المعادية لأمريكا» والتي تشبه إلى حد كبير محاكم التفتيش في حُلّة حديثة.

نسينا أن نذكر شيئا مهما، يلاحظ القارئ العنوان الهامشي لهذا الجزء «كُتَّاب ملعونون، كاتبات منسيات» وهو عنوان يشي بما يتضمنه الكتاب ويحتويه؛ فهو يتحدث عن المآسي التي تطارد هؤلاء المؤلفين في حياتهم، ولم يسلم بعضهم من المطاردة والتهميش والتسخيف حتى بعد وفاته!. بعبارة موجزة كما كتب بوستيجيُّو في ظهر كتابه «ما أكثر الظروف الأليمة التي تولد فيها الكتب!. ليس لأن الكتّاب يتوقون إلى المشاكل والمحن، بل ببساطة لأن الكتب عرضة للمطاردة منذ الأزل، ومطاردوها مُبدعون في خلق جحيم مثالي يحاصرون به مبدعي تلك الكتب. وما يُؤلم هؤلاء المطارِدين وما لا يجدون له تفسيرًا أبدًا هو كثرة الكتب الرّائعة التي تُكتب في ذلك الجحيم الذي صنعته أيديهم». هكذا يجعلك المؤلف تتوق لقراءة هذا الكتاب الذي يستحق القراءة حقا.

يتحدث عن الرواية التي كتبها مؤلفها في ستة وعشرين يوما، والذي استغله الناشر واستغل حاجته ليبتزه بهذا التحدي الذي بدا خياليا ومستحيلا؛ حتى يكتشف القارئ من هو هذا الروائي العبقري فيختفي ذهوله، وتبقى دهشته. ما سيتعرف القارئ على الكتاب الذي أهداه الرئيس الفنزويلي الراحل والمناصر للقضية الفلسطينية العادلة «هوجو تشافيز» لباراك أوباما -وهو كتاب حري بأن يقرأه كل مناصر للقضية الفلسطينية وللقضايا العادلة، ففيه مقاربة واضحة لما تفعله الدول الاستعمارية في أمريكا اللاتينية وما يفعله الكيان الصهيوني ودوره في المنطقة- عندما تحادثا في عام 2009م. ما يعجبني في مؤلفات بوستيجيُّو جميعها، هي تلك النفحة الشرقية والموسوعية الفذة والنادرة في جمع كل هذه المعلومات وصياغتها الصياغة السلسة التي تشعر القارئ بأنه يتتبع خرز المسبحة واحدة تلو أخرى، في حلقة لا ملل فيها ولا ضجر.

لن أخفي غيرتي من هذه الكتب الثلاثة، ففي تاريخنا العماني الكثير من الخبايا والأحداث التي لا نعرف عنها شيئا. فلنتخيل كتابا عن الحبسي ذلك الشاعر الحاد، أو الكيذاوي ومن يحبه من الشعراء، أو الستالي في رحلاته الجبلية صعودا ونزولا، ولم لا نتخيل الزراعة والطبيعة والجمال في تلك العصور الملأى بالحنين وعبق الذاكرة!. إن الكتب الحية التي تبعث في قارئها كل المشاعر العالية والنقية، تجعله يترك الكتاب بعد آخر سطر يقرأه وكأنه يودّع حبيبا أو يواري عزيزا في مثواه. وكما أن «المرء حديثٌ بعده» فكذلك الكتب، أحاديثٌ طويلة من الشغف والمتعة واللذة الهادئة على ضفاف الوادي، بعد المطر..