باسم.. الصانع من كلماته أفقًا

29 أبريل 2024
29 أبريل 2024

حين أُعلِن الفائز بجائزة الرواية العربية، وذهبت بكل استحقاق إلى الأديب الفلسطيني المسجون باسم خندقجي (1983) عن روايته «قناع بلون السماء» الصادرة عن دار الآداب اللبنانية، تذكرت على الفور قصيدة محمود درويش مديح الظل العالي، حين قال: «باسم الفدائي الذي صنع من جزمة أفقا» إلى أن يقول: «باسم الفدائي الذي يبدأ اقرأ» ثم قال في القصيدة ذاتها «سقط القناع عن القناع، عن القناع سقط القناع»، ولكنْ قناع عن قناع يختلف، فقناع بلون السماء، أعاد الاعتبار للجوائز العربية بانحياز الجائزة إلى معاناة الإنسان المناضل لأجل استعادة حريته وكرامته على أرضه المسلوبة، الفلسطيني الذي يتخفى في بلده للحصول على حقوقه البسيطة. إن الفوز المستحق للرواية تتجاوز وضعية صاحبها المحكوم بالسجن المؤبد في سجون الاحتلال الصهيوني، إلى الإشادة بقيمة الأدب والثقافة في التحدي والصمود أمام الظلم والجور والطغيان؛ فالكلمات المُعبّرة والصادقة التي تنشد الحرية والعدالة ستكتب الخلود للقضايا الإنسانية العادلة.

لقد أشرت إلى الرواية في مقالين في هذه الصحيفة، الأول حمل عنوان «مأساة فلسطين سرديًّا وتاريخيًّا» نشر في الأول من يناير هذه السنة، والثاني «أجواء رمضان في المخيم الفلسطيني» نشر يوم 11 مارس الماضي، وفي كل مرة أكتشف في قناع بلون السماء جانبًا مهمًّا في حياة الفلسطينيين، وهذه المرة أحالتني الفصول التاريخية في الرواية إلى إحدى أهم الروايات العالمية، وهي رواية «المعلم ومارجريتا» للكاتب الروسي ميخائيل بولجاكوف (1891-1940) الصادرة عام 1967، أي بعد رحيله بسبعة وعشرين عامًا، يكمن التشابه بين الروايتين في تناول الأحداث التاريخية الكبرى في فلسطين؛ فالكاتب الروسي تخيل لقاء «بيلاطس البنطي مع يشوع الغناصري (اسم مصحف للمسيح)» في القدس، وفي قناع بلون السماء افتتح الكاتب رغبة الراوي في كتابة رواية يكون مؤلفها نسيم شاكر وتتأطر زمنيا وتاريخيا بعد صلب يسوع المسيح وظهوره الأول في رؤيا لمريم المجدلية». ولكن صديقه مراد المسجون يستخف بفكرة كتابة الرواية وموضوعها، ومع ذلك يصر نور على كتابة الرواية «بعد كلّ هذا الاستنزاف والإرهاق والانفصال عن الواقع سأحاول فعل الرواية، سأرتكبها بكل ما أوتيت من مرَّةٍ أولى وتخيّل، سأرد على الخيال بمثله وأكثر. فما التاريخ في النهاية سوى تخيلٍ مُعقْلن! لكن، كيف سأكتب الرواية؟ وما الأسلوب الذي سأعتمده؟ وما عنوانها؟ وهل سأتمكّن من نشرها في هذه البلاد عديمة الأدب والنشر؟».

في رواية خندقجي يتماهى الكاتب مع البطل نور بن مهدي الشهدي الذي لاذ بصمته بعدما «خذله أصدقاؤه ورفاق دربه في النضال والانتفاضة الذين انشغلوا بأبَّهتهم الجديدة التي تراقصت فوق مائدة السلام المختلّ وسلطة الوهم والحيرة، خذلوه حين تخلوا عن رعاية أسرته. لا، خُذل أكثر عندما انكسر قلبه الثائر حين اشترط عليه أعداؤه وسجَّانوه قبل الإفراج عنه مثله مثل الأسرى الآخرين المفرج عنهم، التوقيع على تعهد ينبذ فيه العنف متعهدًا بعدم العودة إلى ممارسته واحترام بنود اتفاقية أوسلو الموقَّعة بين منظمة التحرير الفلسطينية ودولة الكيان الصهيوني». وهنا نجد رأيا مغايرا عن عملية السلام الوهمية التي قضت على فكرة تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.

وفي مشهد آخر يصف الكاتب نفسه حين يتحدث عن صديقه مراد المسجون في سجون الاحتلال «واجه مراد حديد المعتقل بإرادته الفولاذية، وهزم غربته المريرة بالأمل المتدفق من حبر قلمه» إذ هزم الكاتب والروائي السجان بالكتابة من بين جدران الزنزانة وعبّر عن معاناته ومأساة شعبه.

بعد حصول نور على البطاقة الزرقاء التي تعني أنه أصبح إسرائيليا ويحمل اسم (أور)، تتصارع شخصيتان داخل جسد وعقل واحد، عقل وجسد نور الذي يحاول الظهور بمظهر أور اليهودي وتفكيره بغية الالتحاق بالبعثة الأثرية الأمريكية والتأقلم مع حياة جديدة لا تمتُّ لماضيه بصلة. أما الشخصيات التي أسهمت في تصاعد أحداث الرواية فهم:

(أيالا) اليهودية التي تتعرض لتنمر اليهود الأشكنازيين وتمارسه هي مع العرب كما حدث مع سماء إسماعيل حين عبرت «عن غيظها وامتعاضها من حضور هذه العربية التي لا تسأم من الحديث في السياسة ومعاني الهوية». وتقول لأور أو نور «موقفي الوحيد هو أنّ هذه البلاد اسمها أرض فلسطين. أنا عندي أرض واحدة فقط، وأما هي (تقصد سماء) فلديها أكثر من عشرين أرضًا في الأردن وسوريا والعراق وغيرها.. فلتذهب إلى دبي. دبي جميلة. لقد زرتها في عطلة الأعياد الأخيرة».

أما البطلة الأخرى فهي (سماء إسماعيل) التي أعلنت عن نفسها بأنها طالبة دراسات عليا في حقل الآثار من حيفا، وأفصحت لزميلها الكندي في البعثة: «مارك، كوني أعيش هنا فإن هذا لا يعني أنني إسرائيلية أو يهودية..كلّا.. فهناك فرق شاسع بين كوني عربية فلسطينية وكوني إسرائيلية!».

ينتهي المطاف بنور في نهاية العمل في البعثة الأثرية إلى أن يتخلى عن هويته الإسرائيلية ويلتحق بسماء إسماعيل في سيارتها.

«ينزع قلادة نجمة داود من عنقه، يلقيها بعيدا نحو السهل المحاذي للرصيف، ينتشل بطاقة الهوية المزورة من جيبه، هوية، أور شابيرا، يستعرضها أمام ناظري سماء، ثم يمزقها بعنف ليلحقها بالقلادة. لا ينبس ببنت شفة، تدمع عيناه، يُخرج هاتفه من جيبه، يُعيد برمجته إلى اللغة العربية، ويضع حقيبته في مؤخرة السيارة، يتنهد بحرارة ثم يصعد جالسًا بجانبها.... ثم يقول لها قبل انطلاقهما معًا هامسًا بكلِّ ما أوتي من لغته العربية المستعادة: أنتِ هويَّتي ومآلي».

لا أدري كيف وجدت أن سماء إسماعيل ما هي إلا فلسطين العربية التي تستوعب جميع الأديان.