عن التظاهر في الجامعات الأمريكية لوقف الإبادة

30 أبريل 2024
30 أبريل 2024

نشهد هذه الأيام الأحداث التي تجري في ساحات وأروقة كبرى الجامعات في أمريكا. الأمر الذي يعيد لهذه المؤسسات التعليمية مكانتها المنوطة بها والتي تتمثل في الاشتباك المباشر مع المجال العام، فحصه، والتصدير إليه أو حتى اختراعه. وهو ما جعل الجامعات على مر التاريخ الحديث أكثر الأماكن التي تهدد أمان السلطة، وتسعى السلطة في المقابل للسيطرة عليها. أبرز الأحداث التاريخية التي تبزغ عند التفكير في هذا الموضوع هي أزمة الرهائن الأمريكيين في السفارة الأمريكية في طهران عام 1979 التي وقفت وراءها مجموعة من الطلبة الجامعيين آنذاك، والتي أثرت على العلاقات الأمريكية الإيرانية منذ ذلك الحين بصورة بالغة. وقد يكون ما حدث في مايو 1968 في فرنسا والذي بدأ باعتصامات طلبة الجامعات إحدى أبرز العلامات التاريخية على ما يمكن أن يفعله الطلبة بالمجال العام؛ الحراك الذي امتد من جامعات فرنسا لتشارك فيه شعوب من الخارج عدا عن مشاركة بقية القطاعات في فرنسا. هذه الحركة التي أسهمت وصقلت الاتجاهات الفكرية لأبرز المفكرين المعاصرين من أمثال آلان باديو.

ولأن تقنيات السلطة تحاول على الدوام القبض على أي حراك ثوري أو أي هبَّة، بطريقة تعمل على إفراغ هذه الأنشطة من فعاليتها في الوقت الذي لا تتمكن فيه هذه السلطة من قتل أو استئصال هذه الحِراكات كما يحدث في أمريكا الآن، فإنها تراوغ في سبيل الظفر بإحكام قبضتها على ما تسرب منها. كيف تحوَّل الحديث والنظر اليوم فيما يحدث داخل الجامعات الأمريكية، ليكون حدثًا يتعلق بالتظاهر بحد ذاته، والإمعان في عدم ربطه باستمرار الإبادة الإسرائيلية لأهالي غزة. هذا ما تفعله وسائل الإعلام على اختلافها اليوم؛ تكثف تغطية المشهد، تنقل لنا صور الطلبة مفترشي الأرض، أو تقليعات الشعر والأزياء، وتحاول أن تفرّغ كل هذا من سياقه. إن تدفق الصور المستمر من هناك أو حتى التغطية الإخبارية تعمل في اتجاه عكسي؛ فبدلًا من أن تقول لنا إن مناهضة الإبادة هي في عمق كل هذه التمظهرات على اختلافها، تجعلنا في إزاء اتهام هؤلاء الطلبة المرابطين بالأدائية. يصبح الحدث الرئيسي الأبرز هو «التظاهر» بدلًا من أن يكون «التظاهر من أجل وقف الإبادة ووقف العلاقة مع إسرائيل».

والمراقب لما يحدث سيرى تأثير هذا النوع من التغطية الإخبارية على الكثيرين ممن أبدوا استياءهم من تصدُّر خبر التظاهرات في الجامعات الأمريكية الأخبار هذه الأيام جاعلًا أخبار غزة متأخرة على الرغم من أن خبر التظاهر هو خبر عن غزة أيضًا! وجد الكثير من المؤثرين والصحفيين أنفسهم في حاجة لتبرير أهمية هذا الحدث ودوافع الاهتمام به، من قبيل أن هذه الجامعات هي من تصدِّر وتصنع النخبة التي تسيطر على الفضاء العام والقطاعات الحيوية في البلاد، ما يجعل مستقبل العلاقات الأمريكية الإسرائيلية مهددًا.

فلنلقي نظرة على المقاطع المتناثرة التي تصلنا عبر منصات التواصل الاجتماعي من ساحات الجامعات؛ خطابات وقَّع عليها الأساتذة اليهود في الجامعة، طلبة يهود يقولون «نحن يهود آمنون هنا»، لكن هنالك في هذه الثانية تقتل إسرائيل الأبرياء في غزة، مَن الذي يعادي السامية في هذه الحالة؟ مقاطع تقول لنا الكثير عن حضور غزة البنيوي في كل مستويات التظاهر في الجامعات الأمريكية. نشاهد عنف الشرطة مع المتظاهرين، إلقاء الأساتذة على الأرض والضغط على أجسادهم، بينما تستمر منصات إعلام السلطة في التقاط الصور البانورامية البعيدة، التي تجعلنا نشعر بالنفور من هكذا نشاط ثوري وعابر للحدود.

انضمت العديد من العائلات الأمريكية لأبنائها المرابطين في ساحات الجامعات؛ لدعم موقفهم ضد الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين، عائلات قادمة من طبقات اجتماعية مختلفة، ومن خلفيات إثنية وثقافية مختلفة، عكس ما يقال لنا عن أصول هؤلاء الطلبة العربية أو إنهم مسلمون، في مشهد يريد انتزاع الحق في إدارة ما يحدث من قهر في هذا العالم، إنها إذن محاولة إعادة للإرادة في ظل عجز سلبي نزع منه تسييسه ليصبح بدلًا من أن يكون محركًا، بمثابة ترياق للعاجزين، ونقطة وصول لهم، تتملقهم فتقول لهم: أنتم محقون لكنكم في الوقت نفسه عاجزون، فلا بأس من أن تنصرفوا عما يحدث في غزة الآن، فأنتم لا حول لكم ولا قوة. وبدلًا من الفزع من فكرة أن لا حول لنا ولا قوة، ندخل في ركود واستسلام سلبيَّيْن.