بعد صدور روايتها السادسة (حارة العور) سألت السيدة د. غالية بنت فهر بن تيمور آل سعيد عن مشروعها القادم، أجابت أنها تعكف على وضع كتاب عن متحف (المكان والناس)، فظننت أنه لن يكون أكثر من كتاب تعريفي بالمتحف ومحتوياته، ومثل هذه الكتب لا يستغرق تأليفها وقتا طويلا، لكن السيدة أنفقت خمس سنوات في وضع الكتاب، وبغضّ النظر عن تأنيها في الكتابة، وهو أمر اعتادت عليه، في رواياتها، فإن المدّة التي استغرقتها في الكتابة، والمراجعة في كتاب المتحف طويلة، وبقينا ننتظر صدوره حتى خرج للنور، وبعد قراءتي للكتاب الذي حمل عنوان (المكان والناس - حكاية متحف وأكثر بقليل) عرفت السبب الذي جعل الكتاب يستغرق تأليفه حوالي خمس سنوات، فهو ليس كتابا تعريفيّا بالمتحف، مثل بقيّة الكتب التعريفيّة، بل قراءة في التحوّلات التي طرأت على حياة العمانيين منذ السبعينيات إلى اليوم، فالمتحف أرّخ لها،
وقد روت الكاتبة تلك التحوّلات بأسلوب سرديّ آسر، ملقية الضوء «على تاريخ التطوّر الثقافي، والاجتماعي العماني، ومراحله الزمنية المتعاقبة في محاولة حثيثة للتعرّف على موضوع الحداثة، وفهم دور الحداثة في تشكيل موروثات ثقافية جديدة تتولّد في رحم الأصالة؛ بعين ثاقبة، وفكر منفتح» كما جاء في المقدّمة، إلى جانب ذلك عرّفت الكاتبة بالمتحف وروت قصّة تأسيسه، وقدّمت معلومات كافية عن محتوياته، وقامت بالتعريف بشخصيات ساهمت في رفده بالمعروضات، كالحاج محمد علي البلوشي تاجر التُحَف المعروف في سوق مطرح، والمرأة البسيطة (سعادة)، وبيتها، وتاريخ (مصبّح) ومقتنياته، ومأساة (السيدة)، وضياع منزلها الأثري، وتطوّر الحداثة في عمان منذ العام 1970 مجيبة عن بعض الأسئلة التي تدور بخلد زائر المتحف، من خلال سرد بعض القصص، ومن أين أتت؟، ولماذا اختيرت دون غيرها من القطع وعن الناس،
وكيف استعملوها في حياتهم اليومية، موضّحة العلاقة بين الناس، والمعروضات والمكان، والزمان في متحف تمّ إنشاؤه «ليعيد الناس إلى السنين الخوالي، حين مثّلت القطع المعروضة أهمية في الحياة، وسبل المعيشة.
قسّمت المؤلّفة الكتاب، المطبوع بمطابع مزون، في مسقط، بغلاف مجلّد وورق صقيل، وطبعة فاخرة وصور ملوّنة على امتداد (٢٣٩) صفحة من القطع الكبير، إلى فصول حملت عناوين لافتة، وتتحدّث الكاتبة في النصف الأول من الكتاب عن علاقتها بالمتاحف، والفنون، وشغفها المبكّر بها، فهي تقول» منذ الصغر، وضح اهتمامي بكلّ شيء له صلة بالناس وأمور حياتهم، وأحببت المقتنيات التراثية التي كنت أجمعها، وكانت لها صلة بالناس، وحياتهم اليومية، وكنت أزين بما جمعت ردهات بيتنا في مسقط لأمتّع بها نظري»
وتتطرّق إلى علاقتها بالمقتنيات التراثية التي كانت تقتنيها من سوق مطرح، أو أماكن أخرى، مهما كان الثمن غاليا، وتروي قصصا عن تأثيرها على نفسها، وعدم استطاعتها مقاومة التغلّب على إغرائها، والرغبة في اقتنائها.
ومن أهم ما ورد في الكتاب رصد الكاتبة للتغيرات التي طرأت في عُمان عامة، وولايتي مسقط ومطرح خاصة، وحديثها عن التغيرات الكثيرة التي حصلت في العالم بعد انقضاء السبعينيات، وأثّرت على الفكر السائد في عُمان، وفي المجتمعات الأخرى، فتقول «ساد انتقاد للحداثة، والحركات الإبداعية، والفنيّة المشابهة، على اعتبار أنّها لم تأتِ في إطار مبدأ معيّن، وواضح، وتسرّب الشكّ، وطرحت التساؤلات عن جدوى الحداثة، وهل معاييرها تناسب حياة الشعوب خارج العالم الأوروبي، حيث بدأ نمط الحداثة؟ ثمّ ظهر تناقض بين الحداثة، وبين واقع الشعوب خارج أوروبا؛ كونها لا تعكس روح مجتمعاتهم، وثقافاتهم، وبدأ الارتداد عن الحداثة وحلّت الرغبة للعودة لما يسمّى بالجذور»
وكلما نتوغل في الكتاب نقترب من مواضيع متعدّدة تخصّ المتحف: الفكرة، التخطيط، خطوات التنفيذ، الترتيب، المتابعة، ومحتوياته، من متروكات البيوت، والرسائل الخاصّة وأوانٍ، ونحاسيّات، وأبواب، ونوافذ، وأوراق، وقراطيس، ووثائق عديدة، وجوازات سفر قديمة، وعلب، وزجاجات الأدوية، وأنابيب المراهم، وأكياس الحلويّات، والمشروبات السكّرية، وتكشف سرّ كثرة زجاجات شراب (الفيمتو) الموزّعة في زوايا، وأركان المتحف المتفرّقة، فتقول « لهذا صلة بحقبة ما قبل السبعينيات، والظروف الاقتصادية التي أدّت إلى ندرة في السكريّات، والحلويّات عامّة، وشراب الفيمتو السائل هذا صنع في مقاطعة لانكشير البريطانية، واستورد بكمّيّات من هذا الشراب السكري حتّى وصل عمان، وكان يُباع في المتاجر الصغيرة»، وتروي قصصا طريفة من بينها، قصّة الشابّة التي زارت المتحف بصحبة زوجها، وحين شاهدت زوجها يقترب من مجسّم العروس الموضوع في( غرفة العروس) فقدت الوعي، فقاموا بإسعافها!
وتعزو الكاتبة سبب كثرة تواجد زجاجات، وقوارير، وكارتونات الأدوية في المتحف، إلى أنّه في تلك الحقبة، التي سبقت السبعينيات، كانت الأدوية، والعقاقير محدودة، والقليل منها يُباع في الأسواق، فلم تكن هناك صيدليات، وقليل من المستشفيات متمركزة في ولايتي مسقط، ومطرح البعيدتين عن أغلب الولايات، والمدن الأخرى.
إنّ كتاب (المكان والناس - حكاية متحف وأكثر بقليل) يقف شاهدا على تحوّلات المكان وانعكاسها على حياة الناس، وأزيد من هذا بكثير.