حكاياتهم التي لم تُدون
1 - أخشى أن تؤول الحكايات الشعبية التي كانت تُروى لنا عندما كنا صغارًا نحن سُكان القرى في مناسبات مختلفة لأغراض متباينة من بينها التسلية والتخويف والإثارة أن تؤول إلى الضياع والنسيان باعتبارها مجرد «تخاريف» أو لأنه لم يُكتب لها التوثيق بصورة ممنهجة.
لم تُوثق تلك الحكايات بصورة تُمكِنُ من الرجوع إليها باعتبارها موروثا شعبيا كما حصل مع الحكايات الشعبية في التراث العربي وتُتداول اليوم والتي من أشهرها «أبو زيد الهلالي» و«علي بابا والأربعين حرامي» و «الشاطر حسن» و«السندباد البحري» و«علاء الدين والمصباح السحري» رغم تطابق عناصر الحكايات التي تُقص في القرى العمانية خاصة من حيث مسميات الشخصيات ومسار الأحداث والحبكات وتقنية السرد.
الآن وأنا أستعيد بعض تفاصيل تلك الحكايات والتي غالبًا ما كانت تُروى في ظروف تُغلِفها الكآبة أضحك من كل قلبي لأنني عشتها كحقائق مُسلم بها حينها.. الآن اكتشف أنها كانت مجرد «فانتازيا» محلية بامتياز شخصياتها لا تمت إلى الواقع بصلة.
على سبيل المثال ماذا كانت طبيعة شخصية «الراهوبة» التي كانوا يخوفوننا بها ويقولون إنها تظهر للأطفال بالذات في الليل وتختفي نهارًا؟ هل كانت من البشر أو من الجن؟ ولماذا لم يكن هناك «راهوبًا» ذكرًا ؟. ما جنس «لمقورعه»؟ هل هي حيوان قاتل أو ساحرة من البشر؟ ولماذا يعتبر الصوت الذي يصدر عنها «ليلًا» نذير شؤم يسمعه البعض ويتعذر على البعض الآخر سماعه؟ ولماذا يُقرن سماع صوتها بوفاةٍ قريبةٍ لشخصٍ ما من البلدة؟ .. من اخترع شخصية «روع الجن» وما ماهية هذه الشخصية الغامضة؟
طبعًا ينطبق هذا أيضًا على شخصيات من نسج الخيال كالسحرة الذين يطيرون بين القرى في الليالي المُعتمة ويصِلون إلى حيث يريدون في لمح البصر أو الذين يركبون على دابة «الضبعة» يقودون مجموعة من أقرانهم تسمى «السرِية» أو ضحاياهم الذين ينادى عليهم في «العرصات» والناس نيام.
هذه النوعية من الحكايات الشعبية كانت مزدهرة حد القناعة بوجودها في القرى المحرومة غالبًا من خدمة الكهرباء في الأماكن الجبلية النائية أو المعزولة والقريبة من البحر لكنه لم يُلتفت إليها بما فيه الكفاية وفق منهج واضح يخرجها من دائرة المحلية إلى نطاق أوسع .. إنها ذاكرة مرحلة مهمة من حياة مجتمع قروي ويجب إنقاذها من الضياع.
2 - في سنوات الطفولة كان الشجاع الحقيقي أو من يدّعي أنه كذلك هو وحده من يستطيع إسقاط مساكن الدبور الأصفر «الدِبي» المبّنية غالبًا في أماكن ظاهرة للعيان فوق الأشجار وجذوع النخيل سواء لأكل اليرقات أو التسلية.
مهمة إسقاط ما نسميه في قريتنا بـ «الطفخ» بالطبع مهمة لم تكن بالعسيرة لذا وبعد محاولات قليلة «يُجندِل» الصاحب مسكن الدبور فيهاجمه هو بدوره مستهدفًا مناطق معينة في وجهه خاصة العيون والشفاة اللذَين لسوء الحظ ينتفخان في الحال فيصبح مدعاة للسخرية من قبل الأصدقاء والجيران وعابري الطريق ينتج عنها نشوب «ضرابة» حادة تستدعي عادة تدخل الأهل.
ردة الفعل المباشرة على حادثة هجوم الدبور الأصفر كان انقطاع الصاحب عن الدراسة خشية تعليقات الطلاب أو دخوله في مشاجرات لا تنتهي خاصة إذا تجرأ أحدهم ووجه إليه جملة الاستهزاء الشهيرة «بو عين وارمة بايه سكين طارمة» التي كانت تستفزُ أي شخص سقط في حرب تجرئه على قض مضجع الدبور الأصفر.
اليوم لم نعد نسكن المنازل المبنية من الطين وسعف النخيل وسط المزارع لذا فارقتنا البساطة .. لم يعد الدبور الأصفر ولا حتى الأحمر شديد العداء من يهاجمنا لأننا آذيناه .. عدونا اليوم من لم نؤذهِ .. من أحببنا صحبته وصحبتنا لسنوات محبته.. من رأينا في عينيه كل العالم وجماله وبراءته وخذلنا.
آخر نقطة..
سنين .. سنين
هالصوت الجارح الزاجر
يصيح بي وينك؟ قطفت بساتينك
وإبلك خذته القوم
أفّز وفي أنفي .. عجاجة الغارة
وأصحى وفي كفي ساعة ونظارة
مالي إبل أرجوك .. مالي نخيل
لا نصل ولا حافر
تعبت من صوت العروق المبطية
ومن صمتي الفاجر.
بدر بن عبدالمحسن
عمر العبري كاتب عماني
