بيروت التي كانت...

05 مارس 2024
05 مارس 2024

في الرابع من شهر أغسطس من العام 2020 انفجرت مئات الأطنان من نترات الأمونيوم (المخزنة سابقا) في مرفأ بيروت، ما أدّى إلى تدميره بشكل شبه كامل، مثلما دُمرت أجزاء وأحياء في المدينة التي كانت يومها واقعة في قبضة وباء كوفيد-19 (كما هي واقعة في قبضة العديد من المشكلات السياسية والأمنية والاقتصادية التي لا تنتهي، ولغاية الآن لم تُسفر التحقيقات التي أجريت عن أي بصيص أمل لمعرفة الجاني) ليخلّف ذلك أكثر من مائتي قتيل وآلاف الجرحى والمشردين.

على وقع هذا الانفجار تنتهي رواية جبور الدويهي الأخيرة، «سُمّ في الهواء» (دار الساقي)، ليرحل الكاتب بعد أشهر قليلة من تلك الحادثة، من جراء مرض، كان يعاني منه، في إحدى قرى هذا الجبل اللبناني (زغرتا، الواقعة في شمال لبنان) حيث وُلِد والذي لم يكف عن استحضاره طوال عمله الأدبي ورواياته المتعددة والتي استعاد فيها أيضا بيروت، المدينة التي عاش فيها وكتب عنها أجمل الصفحات.

قد تكون الأبخرة السامة التي انتشرت بعد الانفجار مجرد المظهر الأخير لسُم أكثر دقة غزا هواء لبنان منذ سنين عديدة والذي يحاول راوي الرواية الهروب منه بسجن نفسه في الصمت والعزلة.

تبدأ «سُمّ في الهواء»، بصورة عائلية التقطها في نهاية خمسينيات القرن الماضي أحد هؤلاء المصورين المتجولين الذين كانوا ينتقلون من منزل إلى منزل: امرأة أنيقة، متهالكة، على أريكة من الخيزران، وعلى الحائط فوقها صورة للجنرال ديغول وهو يلقي خطابًا. إلى يسارها، كان هناك صبي ذو شعر مبلل، وبينهما كلب نائم، ملتف على شكل كرة. يبدو أن كل شيء كان معلقا، سلميا. ومع ذلك، من خلال التركيز على المظهر، فإننا ندرك القلق والخوف. الكلب فقط هو الذي يستمتع بالهدوء الذي يلي الغداء في الموسم الحار. اسمه فوكس، وهو الوحيد من أبطال الرواية الذي يُشار إليه باسمه.

الشخص الذي يكشف خيط حياته في هذه الصورة التي لن يتخلى عنها أبدًا، يحافظ بعناد على عدم الكشف عن هويته بشكل عام حتى وهو يسعى جاهدًا لتسمية كلّ مكان من أماكن تجواله وكل شيء من هذه الأشياء التي تعيش فيه. يبدو راويا غريبا هذا الرجل - الطفل في الصورة - إذ إنه دائمًا على مسافة من نفسه، متعطش للقراءة ولكنه غير قادر على الكتابة، باستثناء بعض رسائل الحب التي كتبها في فصل الصيف الذي بلغ فيه التاسعة عشرة من عمره. في شخصيته بعض السمات «النفسية» التي تشبه رامبو (الشاعر الفرنسي، لا البطل السينمائي بالطبع). حين بدأ - وقبل أن يختفي هو نفسه أيضا - في إعادة قراءة الكتب التي أحبها أكثر من غيرها، قرر أن يحرقها بشكل منهجي؛ آخر كتاب ضحى به كان «الإشراقات» (لرامبو)، الذي كان يعده بمثابة حوليات صغيرة عن اضطراب المشاعر. يعيد قراءته مرة أخيرة، ثم يحتفظ به في جيبه لعدة أيام، وكأنه آخر رصاصاته، ليتلو منه بعض مقاطعه بصوت عالٍ وهو يتجول في غرفته.

قصة تاريخه، مثل قصة عائلته، عبارة عن نزوح متتال حسب التقلبات التي كان يمرّ بها لبنان (لغاية اليوم لم يتبدل أي شيء). فللهروب من القناصين والتفجيرات (زمن الحرب الأهلية)، يُقرر جميع أفراد العائلة أن يغادروا بلدتهم الساحلية إلى قريتهم الجبلية الهادئة. يأخذ الأب معه أدوات تصليح الأحذية كما أدوات تلميعها (يُقال عنه كندرجي باللهجة اللبنانية)، أما الأم فتحمل معها أواني الزهور والكتاب المقدس. أما العمّة - وهي السيدة التي تظهر في الصورة - فكانت ملكة جمال سابقة جمعت ثروتها في البرازيل، لم تتمكن من التخلي عن فساتينها وأحذيتها ومجوهراتها، ناهيك عن منتجات مكياجها. يكتفي الابن بمخزونه من الكتب دون أن يعلم أنه خلال هذا الصيف الغريب سيقع في مرجل الحب، ربما للمرة الأولى والأخيرة.

تمضي أسابيع الحرب الأولى، وعندما يصبح «شبه المنتجع» (منزل القرية) رتيبًا، ومع نزول المطر، يصبح المكان غير جذاب، فتقرر العائلة العودة إلى بيروت. البطل، شبح يتخلى عن القراءة ودروسه الجامعية، ويسافر بالمدينة في كلّ الاتجاهات. كأنه كان يتجول في حكاية عظيمة حررته من ألغاز الخيال. يقرأ كل ما يمكن قراءته في الشوارع: أسماءها المكتوبة على اللوحات، لافتات المتاجر، أوراق النعي المعلقة على الجدران، قوائم الطعام المعلقة على أبواب المطاعم. كما ينجذب أيضا إلى أشياء لا يمكن قراءتها، إلى ذكرياته، التي هي بلا شك ذكريات جبور الدويهي نفسه، التي تعيد الحياة إلى المدينة قبل الحرب الأهلية والكوارث التي تتابعت منذ ذلك الحين، إلى ألوان واجهات المباني الزاهية، الأسوار العالية التي ابتلعتها النباتات المتسلقة والزهور المجففة، والتي تخفي منازل قديمة كانت تعيش فيها عائلات قديمة، على وشك الانقراض، حياة صارمة وصامتة بقواعد من زمن آخر. ولكنّ عبقا من الحنين لا بدّ أن يشدّ إليه من عاش تلك الفترة من حياة مدينة، لم تعرف في النهاية سوى تدمير حلمها الذي اخترعته.

إنه زمن المغامرات السياسية الدموية، وفي بعض الأحيان البشعة والقبيحة. يحاول البطل المجهول، عددًا قليلًا من التجارب، لرغبته في اللعب والتسلية أكثر من كونه مقتنعا بذلك. والده، وهو عضو في أخوية القلب المقدس ويلتزم بمبادئ الكنيسة، يقدم نفسه على أنه شيوعي ويتحدث عن طيب خاطر عن تحويل قوة العمل إلى سلعة. أما خطة الابن للانضمام إلى الثورة الفلسطينية والفدائيين في وادي الأردن فقد فشلت فشلا ذريعا بسبب نوبة مغص في الأمعاء. بعد أن أصبح تروتسكيًا لبعض الوقت، بدأ ليلًا بخدش سيارات الجاغوار البهية وسيارات المرسيدس الرائعة ويكمل عمله بثقب إطاراتها انتقامًا لاغتيال أحد رفاقه. لكن لا نشاط خليته الثورية، ولا تكاثر الفتوحات الباسلة، ينجحان في انتشاله من حزن الموت وانبهاره. كأنه غائب عن نفسه منذ أن انتزع من جنّة الطفولة، لذلك يحاول هذا المتأنق الغريب أن يجرد نفسه تدريجيًا من كل ما يربطه بالحياة. تصبح قصة الزهد المأساوية هذه جميلة للغاية. كل التفاصيل الدقيقة لعالم يختفي - تأرجح قمة شجرة حور أو سرب من الحمام يهبط على سطح من القرميد الأحمر - تأخذ ارتياحًا غير عادي؛ إذ نستعيد من خلالها سيرة مدينة ذهبت عميقا إلى موتها. وما انفجار المرفأ، الذي يشكل المشهد الأخير، سوى هذه الستارة التي تنزل على خشبة المسرح لتخفي وراءها ذاك العرض الذي كان باهرا ذات يوم.

لن أقول إن «سُمّ في الهواء» هي بلا شك أجمل روايات جبور الدويهي، بل هي بمثابة إعلان حبه للحياة التي فارقته والتي غرقت في وطنه. وقد غرقنا معها كلنا. نحن جيل الحرب الذي عاش وأحب وقرأ وكتب على إيقاع الحروب. والتي يبدو أنها مرشحة لتعود قريبا.

إسكندر حبش كاتب وصحفي من لبنان