بابل واللغة الأولى

23 سبتمبر 2025
23 سبتمبر 2025

يمكن لنا القول إن هناك ثلاثة أشخاص يحملون اسم أمبرتو إيكو. الأول هو صاحب رواية "اسم الوردة"، التي عرفت شهرة عالمية وترجمت إلى العديد من لغات هذا الكوكب، وبيع منها ملايين النسخ، كما تحولت إلى فيلم سينمائي عرف النجاح الكبير بدوره. لكنها بالتأكيد ليست روايته الوحيدة، إذ أعقبتها سلسلة من الروايات التي لم يتوقف فيها الكاتب عند مناخ واحد، بل عرف كيف يُنوع من فضائه الروائي، في البحث عن متخيلات تبتعد عن السائد في الرواية الأوروبية. وقد نجح في رهانه هذا، إذ حظيت رواياته بالمتابعة الكثيفة، سواء من حيث النقد أم من حيث القراء.

الثاني، هو إيكو الصحفي الذي عرفت مقالاته وتعليقاته في الصحف الإيطالية متابعة واسعة، وقد نحا فيها إلى كتابة التعليقات، حول الحياة اليومية الإيطالية، بالدرجة الأولى، بيد أنه لم يتوقف عندها، إذ تابع رحلته ليُطلّ من خلالها على أبرز القضايا -الفكرية والسياسية والاجتماعية- التي يعرفها عصره. وغالبا ما كان يأتي من وجهات مخالفة لكلّ ما كان يكتب، حتى أن البعض اعتبر أنه يربي أعداء أكثر من أصدقاء. لكن في الواقع، كان لمقالات "المايسترو" أثر كبير في تبديل الكثير من المفاهيم السائدة عند الإيطاليين، ومن ثم بعض الأوروبيين. (تناولنا ذلك في مقالة سابقة في هذه الزاوية بتاريخ 7 – 5 – 2025)

أما الشخص الثالث، وهو الشخص الأقدم في هذا المثلث، فهو عالم السيمياء، وقرينه اللغوي؛ أو بالأحرى هو أيضا ذاك الفيلسوف الذي درّس في "جامعة بولونيا" (إيطاليا) و"يال" (الولايات المتحدة الأميركية) و"مدرسة الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية" (فرنسا)، ناهيك عن المحاضرات في أكثر من بلد وقارة.

هذا الشخص الثالث هو من نعود ونجده في كتابه "البحث عن اللغة المتكاملة" الذي يقدم لنا فيه الكاتب بسخاء ومهارة، معرفته الموسوعية. يحدّد لنا أيكو، تحقيقه هذا، ضمن المجال الأوروبي. يمكن لنا أن نعتبر هذا التحديد أفضل، طالما أن ما تمّ جمعه وتقديمه يفرض نفسه علينا بشكل مطلق.

لقد شكلت عملية البحث عن هذه اللغة المتكاملة نوعا من الهوس القديم جدا. فبحسب البعض، لقد كانت موجودة، في الأصل، لذا علينا أن نعود لنجدها من جديد. ووفقا لآخرين، علينا أن نعيد إبداعها مرة أخرى: إبداع لغة جديدة يمكن تعلمها بسرعة واستعمالها بسهولة. من هنا عملت بعض "العقول العظيمة" على ذلك، بيد أن النتيجة لم تكن سوى خسارة كبيرة، كما هي الحال عند روجيه بيكون وكومينيوس ودالغارنو ويلكنس ولايبنيتز، إلى ما هنالك.

لقد تمّ العمل على هذه الفكرة، في الغرب، للمرة الأولى، انطلاقا من آيات سِفر التكوين. لقد كانت هناك لغة موحدة قبل اندثار برج بابل. وما التعدد اللغوي إلا نتيجة اللعنة الإلهية. فلو عدنا إلى التوراة، سوف نجد أن كل هذا الأمر، بدأ مع برج بابل. إذ بعد الطوفان (طوفان نوح)، كانت الأرض بأسرها تتحدث لغة واحدة وكانت المفردات التي تستعملها متشابهة، بيد أن التكبر الذي أصاب البشر، قادهم إلى الرغبة في بناء برج يصل إلى السماء. ولكي يعاقبهم، عبر أن يفقدها لغة التفاهم فيما بينهما، قام الله بإحلال تنوع اللغات وشرد البشر في جميع أنحاء الأرض. انطلاقا من هذا، يصف لنا امبرتو إيكو تلك الجهود التي لم تتعب وتكل على مدى عصور، بحثا عن إيجاد هذه اللغة من جديد وتحديد ما كانت عليه هذه اللغة الأولى الأصلية. اشترك في عملية البحث هذه القِباليون والروحانيون والفلاسفة. أما بالنسبة إلى آباء الكنيسة، فنجد عندهم أن العبرية كانت هي لغة البشرية الأساسية، وقد انحدرت منها كلّ اللغات الأخرى.

هذه الفوضى في التفاهم، أو هذا الخليط بين اللغات، أثار وعلى مدى ألفي سنة، العديد من الأعمال، وعلى الرغم من تنوعها إلا أنها اشتركت جميعها في مقترب مشابه: البحث بعناد عن لغة موحدة ومتكاملة يمكن لها أن تعيد إصلاح التفاهم (والفهم) في هذا الكون، لعله ذلك يؤدي إلى تجاوز هذه اللعنة التوراتية. من هنا، ينطلق كتاب إيكو هذا لــ"يقص" علينا هذا الحلم المستحيل.

كان دانتي – وقد خصّ امبرتو إيكو فصلا كاملا حول بحثه "في البلاغة العامية" لغويا متنورا. فبالنسبة إليه، لا توجد لغة محدّدة، بل هناك هيئة مشتركة فيما يخص أنواع تعلّم اللغة: "وحده الإنسان من أعطي له أن يتكلم". وعلى قاعدة هذا الابداع اللغوي، اقترح علينا دانتي أليغري إبداع لغة متكاملة: ألا وهي لغة "الكوميديا الإلهية".

كان البحث عن هذه اللغة المتكاملة قد غطى أيضا بعض الطموحات الدينية والسياسية. ففي القرن الثالث عشر، قدم ريمون لول مشروع "الفن الأكبر" بكونه نسقا لغويا يسمح للكفار باعتناق الدين. لقد كانت هذه اللغة تتطلع إلى أن تكون لغة كونية، مؤسسة على العملية الاندماجية الرياضية. ولم يستطع الفيلسوف الكاتالوني أن يذهب في مشروعه إلى النهاية، لكنه "كان رائعا من نواحٍ كثيرة". وفي فترة لاحقة، جاء نقولاس الكوزاني الذي بدا متأثرا بطروحات لول، ليعمل من جديد على هذا المشروع "المسكوني".

حين جاء عصر النهضة ولحق به تاليا عصر الأنوار، لم تعد تلك الطموحات، طموحات لاهوتية، بل معرفية، وقد ارتبطت فيما بعد بفكرة التقدم. لقد شجعت هذه اللغة الدونية على التبادل ما بين مثقفي الأمم المختلفة. بيد أن هذا المشروع اصطدم بالعديد من العواقب. لعل أبرزها، وأوضحها، أنه في كل عصر من عصور التاريخ الغربي، كانت هناك لغة ثقافية مسيطرة: الإغريقية، اللاتينية، العربية، الفرنسية (في القرن الثامن عشر)، ولا ننسى اللغة الإنجليزية في عصرنا الراهن.

أما الاعتراض الآخر فقد تجلّى في أن لغة دولية سوف تتحول إلى أداة سرّية عبر قطعها لتواضعات فهمها. من هنا أيضا فإن اختراع لغة عامية كونية – مثل الفولابوك أو الاسبرانتو لم تشهدا أي نجاح.

لكن علينا أن نشير أيضا إلى سبب آخر من أسباب هذا الاستياء في عدم تحقق ذلك كله والذي يتمثل في اتجاه معاكس. في عام 1751، أكدّ الأب بلوش بأن محاولة تضاعف اللغات يبدو أشبه بظاهرة طبيعية واجتماعية وضعية في الوقت عينه. فبعد عدة عقود من ذلك الأمر، اعتمد هيردر والرومانسيين على هذه الحجة. فقد أصبحت اللغة العلامة الأثمن على هوية شعب ما، بل هي التي تؤسس تماسكه.

"اللغات الطبيعية هي متكاملة وذلك تحديدا لأنها متعددة، لأن الحقيقة متعددة بينما الكذبة تتلخص في جعلنا نعتقد أنها متفردة ونهائية". في أي حال، وبعد كل شيء، ألم يصبح الحلم القديم حقيقة في حين أن اللغات الاصطناعية والعلوم المعرفية هي من تشكل اليوم اللغة الأصلية. بمعنى أنه خلافا لهذه المحاولات في البحث عن لغة متكاملة، نجد اليوم، في عصرنا، أنها محاولات قد أدت إلى تبعية إيجابية، واقصد بذلك لغات المعلوماتية (أو لغة "الداتا" مثلما يطلق عليها البعض)، لأنها -ومثلما يرى إيكو- تأتي لتذكر أبناء آدم بالميراث الذي تركه لهم، أي "هذه المهمة في إعادة السيطرة على برج بابل" وهو -أي البرج- هذه المرة، "ممتلئ ومتصالح مع نفسه".