الوعي وفق عقارب الساعة

23 أكتوبر 2022
23 أكتوبر 2022

يبدأ الوعي لدى الإنسان بالتشكل منذ إشراق لحظة الميلاد، أو أنها قد تمتد الى ما هو أبعد من ذلك، فنظن أن ذلك الامتداد البعيد هو ما يقصد به مرحلة الاحتضان الجنيني، أو أثناء مراحل تشكله في شهوره التسعة، والتي تعتبرها كثير من الدراسات الحديثة من المراحل التكوينية الفارقة لوعي الفرد، الا أن الأمر وعلى ما يبدو وخلال القراءة التأملية العميقة لخط سير الكون، فإن وعي الفرد يطال تلك السنين البعيدة، التي تشكل فيها وعي الحضارات والأمم والشعوب السابقة منذ الأزل ومنذ بداية الكون، فأصبح وعيه على اتصال لصيق لا يمكن الفكاك منه لوعي من سبقوهم خلال العقود الطويلة الماضية، ما علمنا منها وما لم نعلم، ما دون منه وما لم يدون، ما كان منه قبل التاريخ، وما كان ضمن الحضارات التاريخية، وما بعد اختراع الكتابة، والتي وصلت الينا عن طريق الآثار الصامته التي تتبعتها علوم قياس التحقيب والزمن، لتقودنا عبر استقراء الى حقائق عامة حول تلك الحقب الزمنية، وصولا الى وعي العائلة والمجتمع الذي سيحيا عليه ومعه، وبالإضافة الى ذلك الوعي الموروث التراكمي، فإن وعيه بذلك الوعي يبدأ وعلى نحو بيولوجي فسيولوجي من خلال الحواس الخمس التي تبدأ في التعرف على ما حولها، فحاجتنا الى التغيير حاجة ضرورية ملحّة، فكما يصعب العيش في البِرك الآسنة؛ كذلك الإنسان لا بدّ له من ترحال، إن لم يكن لشخصه هو؛ فيكون بترحال الحال وتغيّره، وهو يكون في ذات البقعة والمكان.

مشكّلة جملة متّحدة من الوعي بالمحيط، فيبدأ بالنمو والتفاعل المباشر مع محيطه بوعي، فيجد للأشياء نظامها والمحسومات تسمياتها ولكل شيء قانون ومبدأ.

ومع توالي مراحل نمو الفرد تبدأ احتياجات أخرى لديه في الانبثاق، لا يتسع لها الوعي الموروث، وتتناسب مع مقولة جوزيف ميرفي: " قانون الحياة هو قانون الإعتقاد "، فيكون في رحلة بحث عن الأفضل، وعن مقومات الحياة الأكثر وفرة، بمحرك داخلي يصعب تفسيره، الا أن الفلاسفة قالو سابقا إن السعادة والمزيد من الحرية وتوقه الى مزيد من الرفاهية، هي بوصلة حركة الإنسان عبر الزمان، فمهما وجد من حوله من وعي وإتزان فيظل هو باحثا عن الأفضل، وهو ذلك جوهر الحياة ورحلتها الأساسية، وما يدفع بعجلة حركتها قدما نحو الأمام والاستمرارية.

فمع محاولاته للتكيف مع الوضع القائم، وليكون هنالك المزيد مما يتسع له ولحياته القادمة؛ يبدأ بتشكيل وعي خاص به،وعبر التفكير والتفاعل مع المحيط، ومع انبثاق لافت لضوء الأحلام والتطلعات والآمال.

فيسير تفكيره بعملياته العقلية بوتيرة ثابتة،، إن تعدّت قدراته ممن حوله، إلا أن منظومة الحياة والوعي بها تسير على نحو يمكن استقراءه بشكل ملحوظ، فبات لكل شيء علما، يتنامى على نحو تدريجي، يمكن من خلاله التنبؤ لما هو قادم، وكل ذلك الى الآن ينصب في بوتقة الوعي، ولا يخرج من حدوده، فأصبح من السهل علينا تفعيل العقل، والقراءة الواعية لخطى سير أحداث الماضي، لمعرفة حركة الحياة ودورتها، ورحلتها التبادلية ما بين البدايات والنهايات، كقانون كوني يحفظ للزمان توازنه واستقراره.

الا أن ذلك الوعي مهما بدى مسيطرا على الكون من حوله، ورغم ما يمتلك من قوة في اتخاذ القرارات لصناعة التغيرات التي تشاء؛ الا أنه هنالك قوة أخرى تسير معه بالتوازي، وعلى نحو غير ملحوظ، وهي قوة اللاوعي أو العقل الباطن التي لا يمكن تجاهلها ونكرانها بأي حال من الأحوال.

فكما أن عقلك على وعي بتلك العمليات التي من الممكن أن تقوم بها وتطورها حسب قدراتك، من معرفة وتذكر وتحليل وتصنيف وتركيب، وبتقييم ناقد وصولا الى المقدرة على الخلق والإبداع، فإنه تظل للنفس قوة تتنامى فيها الأحلام والأفكار والرغبات، فيكون لها في أوقات معينة لا يمكن التكهن بها؛ موقف السطوة والسلطة والوعي ذاته.

سواء كنت على اقتناع تام بذلك اللاوعي، أم أنك تنكره أو تحاول جاهدا تجاهله، أو اعتباره محض حكايات خرافية، إلا أنه موجود وله حضوره الخاص القوي المميز.

ولربما قوي بسبب زيادة تجاهلك له، بتقوية قدرتك على الوعي الكلي بما حولك، وعبر سيطرتك على قوة العادات، والتركيز عليها بداية من لغة الجسد حتى رصانة الأفكار التي تتبناها وقوتها.

فكما ان الوعي يتجلّى بإدراكك لما حولك بالحواس، وادراكها المحسوسات من حولها عبر سمع ورؤية، فإن اللاوعي يتجلّى على نحو استثنائي؛ في استبصار ليس بحاجة الى أن يرى رؤى العين.

واذا افترضنا جدلا بأن ذلك الوعي الذي تمسك به وتتحكم يسير باتجاه عقارب الساعة، وعلى نحو من الممكن معرفة تحركاته بدقة تامه، تضاهي دقة الثواني والدقائق ومنظومة احتساب الوقت، فيكون بذلك اللاوعي يسير على نحو مخالف ليكون اتجاه سيره عكس اتجاه عقارب الساعة.

وإن كان الوعي يسير باتجاه معلوم مرئي؛ فإن اللاوعي يبقى ضمن خانة المجهول، ولا يمكن رؤية عملياته وتفاصيله، وإن كان ذلك الوعي كلما أمسكنا به، أصبحنا أكثر تمسكا بصفته، فإن اللاوعي يصعب التحكم في خط مساره، حيث إن لغز اللاوعي يُقرأ من خلف سطور الوعي، وإذا كان الوعي حاضرا فإن اللاوعي هو تلك الحلقة الغائبة المفقودة، وبينما يسهل الإمساك بالوعي؛ فإن الإمساك باللاوعي يشبه مطاردة قشّة في مهب الريح، وبينما يتم معرفة الوعي عن طريق الحواس، فإن اللاوعي تتم معرفته باختلاط الحواس، فنسمع ما يُرى، ونرى ما يُسمع.

فإن تحرك تفكيرنا الواعي باتجاه يسير مع عقارب الساعة، وعلى نحو مدروس فإن التفكير اللاواعي؛ يكون خط سيره عكس عقارب الساعه، فالعلاقة بين الوعي واللاوعي علاقة اطّراد، فكلما زاد وعينا وتركيزنا الكلي؛ تقوى معه المكنونات في اللاوعي،، وإن كانت مسيرتك طويلة باتجاه الوعي فإن اللاوعي يختصر المسافات.

وحيثما قيل قديما إن خير الأمور الوسط، الا أن الأمر كباقي الأقوال لا ينطبق بالضرورة مع كل الموجودات، فإن في حركة عقارب الساعة؛ لا يمكن بحال من الأحوال الوقوف على خط المنتصف ما بين تلك الحركة وعكسها.

وبقياس ذلك على مسألة الوعي واللاوعي، فإن لكل منهما خط سيره الحر، لا يمكن الوقوف بينهما، فللوعي عملياته المعروفة، واللاوعي له تلقائيته وقدراته التي يصعب التحكم بها.

فنحن من خلال الوعي نترجم المشاهدات والمحسوسات، ومدخلات الحياة وعناصرها عن طريق الوعي، ليترجمه الى خبرات مكتسبة، تمت قراءتها بما يتناسب مع طبيعة العقل الإنساني وحدوده، وفي هذا الوعي نجد اتفاقا سائدا بين الناس، فنحن نميّز ذات الألوان، ونسمي نفس العناصر بمسمياتها، ونعي كافة القضايا، وفق منظور متحد، وان اختلفنا تظل فيما بيننا على نفس السياق البشري.

ومن خلال اللاوعي؛ فإنه يتراكم ويتم تخزينه وفق آليات نجهلها، ويصعب البتّ فيها، ومهما تبدّى للباحثين حول إمكانية السيطرة على مخزون اللاوعي، فإن الأمر تظل أسراره خفيّة، ولكل تجاربه الخاصة ومكنوناته التي تشبه بصمات الأصابع في استحالة توافقها، فهي بصمة النفس الخاصة جدا.

ونحن عن طريق ذلك الوعي نسير باتجاه ينطلق متوجها نحو المستقبل مستندا على الماضي، متكئا على الحاضر، فيكون له خط سير زمني معروف، أما ذلك اللاوعي فإنه يعيش متنقلا ما بين الماضي والمستقبل، ليكون الزمن بالنسبة له محض تجريد لا وجود له.

وكلما تعاظم إدراكنا بالوعي الكلي، تنامى داخليا اللاوعي، وكلما كنا أكثر وعيا عبّر اللاوعي عن نفسه بطريقته، ولا يمكن اعتبار أن الوعي هو نقيض لذلك اللاوعي بأي حال من الأحوال، بل أنهما متلازمان، ووجهان لعملة واحدة، وقطبان لخط واحد، أو أنهما يسيران على نحو متعاقب، فما أن تشرق شمس الوعي حتى يغيب اللاوعي، وعندما يشرق ذاك اللاوعي يغيب الوعي، فإن كنّا نروّض عقولنا عبر الوعي التام، فإن اللاوعي يروّض نفسه بشراسة في الجهة المقابلة، وإن كنت تقطع مسافات الوعي بسلاسة، قد تكون مطبات اللاوعي غير قابلة للتخطي، فهو دائما ما يكون خارج المقاييس الذهنية.