النوم مع أغنام «المسَّرة»

15 يونيو 2021
15 يونيو 2021

كنتُ قد عدتُ للتو من جامعتي في الكويت لقضاء إجازة الصيف، وفي الليلة الأولى التي لم أتمكن فيها من النوم بسبب تغيير المكان، واعتيادي على السهر، سمعتُ من الغرفة المقابلة نحيباً يشتدُ مع مرور الوقت، في البداية تجاهلته، لكنني قمتُ لتفقد المكان، فإذا بالعاملة التي تعمل في منزل عائلتي تبكي بشدة، وهي جالسة على فراش صغير، تتضرع للرب الذي تؤمن به، بينما تنظر إلى السماء. لقد هالني الموقف، ورسخ موقفي حول إمكانية تواصلي مع من يعملون في هذه المهن بعيداً عن أوطانهم. سألتُ ليلتها ماذا لو لم تكن هذه المرأة مؤمنة بشيء؟ كيف ستجد العزاء في الظروف التي اضطرتها لترك أولادها نحو مكان غريب ومجهول. لطالما أردتُ أن أعرف ما يفكرون فيه بشفافية، دون حاجز اللغة ولا الخوف، هذه الفئات المسحوقة والمهمشة.

عندما قرأتُ كتاب «كائنات الردة» للكاتب والإعلامي العماني سليمان المعمري، شعرتُ بأنني أحقق نوعاً من التواصل مع هذا الفصيل المهم في مجتمعنا، إذ يذكر المعمري قصصا عن عُمال قدموا للعمل في قرية الردة بصحم، وحكاياتهم التي أصبحت جزءا من تاريخ هذه القرية، وعن العلاقات والوشائج الاجتماعية التي نشأت بين الطرفين، وعن أجيال خلفت أجيالا في مواقعها المختلفة داخل هذه القرى، حتى أن المعمري شاركني في حوار أجريته معه في برنامج حكايات الذي أقدمه عبر إذاعة عمان العامة أن أقارب للحلاق الشهير في الردة، يعلقون منشورات ذات صلة بكتاب المعمري عن قريبهم، فخرا واعتزازا. لكن هذا رغم أهميته لم يشبع فضولي قط، كلما تأملت كثيراً من العشوائيات أو البيوت البسيطة التي تعيش فيها هذه القوى العاملة داخل المزارع خصوصاً، لسنوات كثيراً ما تستمر لعقود، كان لدي توق لمعرفة ما يعيشونه، وما رؤيتهم عنا، كيف يستطيعون احتمال كل شيء بداية من درجة الحرارة ونهاية بالبعد عن عائلاتهم لفترة طويلة من الزمن. لكن هذه المرة عبر رؤيتهم هم، لا عبر ما ننقله عنهم.

عرفت قبل مدة، أن طبعة جديدة ستصدر عن ترجمة رواية لكاتب هندي يعيش في الإمارات، يدعى بينامين، وعنوانها «أيام الماعز» تحكي الرواية المنقولة عن واقعة أصلية، قصة عامل هندي يعمل في جرف تربة النهر في كيرلا، يصل إلى الرياض للعمل في مكان لطالما سمع عنه، لابد وأنه سيعمل في شركة كبرى، في دول سمع أنها متطورة وثرية للغاية عام ١٩٩٢ وأنه أخيرا سيتمكن من الحصول على أجر عال نظير عمله، لكن فوجئ بـ «أربابه» يأخذه من المطار للعمل في صحراء مترامية الأطراف، لا يقي «أربابه» شيء من الشمس والمطر غير خيمة، وثمة هنالك زريبة للغنم وأخرى للجمال. لا يتوقع منه أن يستحم إطلاقاً، لأن عليه أن لا يبذر في استخدام المياه، يأكل يوميا «كوبس» أي «الخبز» سرعان ما ألفتُ نطقه لكلمة المزرعة على أنها «المسرة».

يتكرر المشهد ذاته في الرواية عندما لا يجد العامل واثنين برفقته يعانون المرارة والشقاء نفسه، بدا من الهرب، وعندما تبتلعهم في شهر أغسطس الصحراء والحرارة الشديدة فتتسبب في موت أحدهم حتى يبدأ بطلنا هنا بالتضرع للرب، واثقا بأن لا ملجأ سواه في كربه هذا، نعيش قبل هذه اللحظة في العمل سردا عن علاقة سيؤلفها الكاتب عن علاقة حميمة تنشأ بين هذا العامل والأغنام والأشجار البرية المتناثرة، في الوقت الذي تنقطع فيه أواصر الماضي الذي عاشه العامل قبل قدومه إلى هذا المكان، لقد بدا أنه يصل إلى آخر العالم، الذي هو أوله من حيث امحاء ما يسبقه تماما.

يصل العامل إلى المدينة، بعد عناء، وهناك يتلقفه أبناء قومه، ويقرر كما يعترف في الصفحة الأولى من العمل، تسليم نفسه للشرطة، فهو لا يمتلك جواز سفره، ولا أي وثائق تخصه، ستكون رحلتنا في هذا السجن بقدر قسوتها، إلا أنها معقولة مقارنة بما عايشته الشخصية في خارجه لمدة ثلاث سنوات. لقد ذكرني هذا الاعتراف برواية قرأتها قبل عشر سنوات «لا» لمصطفى أمين، أكاد لا أتذكرُ منها سوى ضخامتها، وغلافها الأسود المقوى، وإشارة في بداية السرد إلى أن السجن في بعض الأحيان أرحم على الإنسان من خارجه.

لحسن حظي، تضعني القراءة دائماً في طريق يبدو كما لو أنه مرسوم بدقة نحو منطقة آمنة للنظر، يحدث هذا مرة أخرى عندما ينشر موقع «جدلية» بقسمه العربي والذي يرأس تحريره الكاتب سنان أنطون، مقالاً مترجماً لـ سيبستيان كستيليي بعنوان «بعد سنوات الخليج عودة مؤلمة إلى الديار المهاجرة.» الذي يضعني في قلب الوضع الحالي، في ظل شكل من الهجرة المعاكسة بين كيرلا ودول الخليج ومن بينها عمان، بسبب جائحة كورونا وتداعياتها على الاقتصاد. وعن معاناة العائدين إلى قراهم جراء الفصل من الشركات التي يعملون لديها في الخليج دون أي تعويضات تذكر.

يشير كاتب هذا المقال لحضور هؤلاء العمال كأبطال في قراهم ، فقد حولوا مقاطعة مالابورام الهندية بولاية كيرالا إلى ساحة مصغرة لدول الخليج العربي بسبب إرسالهم للأموال، التي تمثل مصدر دخل ثلث العائلات هناك. و»يؤكد بينارايي فيجايان، رئيس وزراء ولاية كيرالا، بأن الدولة -مدينة حقا- للبرافاسيكال لمساهمتهم في التنمية المحلية. فحسب دراسة للبنك العالمي، تؤدي زيادة بنسبة 10% من حصة تحويلات العمال المهاجرين إلى عائلاتهم في الناتج المحلي الإجمالي - إلى انخفاض 1,6% من نسبة الأشخاص الذين يعيشون في الفقر-.»

إنها دعوة للتفكير إذن في حسم الكثير من الملفات المتعلقة بهذا الفصيل المهم داخل مجتمعاتنا الخليجية، كانت كيرلا مركزا تجاريا عالميا للتوابل، لكنها لم تعد كذلك، أو لم يعد هذا مهما بنفس القدر في البضائع المتبادلة اليوم، ومع كل العثرات التي تواجه استمرار تمويل دول الخليج العربي بالنفط، قد لا نختلف عنهم كثيراً. إنها دعوة لمراجعة نظم التأمينات الاجتماعية والتقاعد التي لا تشمل هذه القوى العاملة.

كانت قراءة هذا العمل قاسية جداً، نوع من القشعريرة كنتُ أحس به عندما كنت أبدو «العرب» هذا التعميم في سياق حديث بين عاملين يتحدثان عن البلدة التي وفدا إليها حديثاً.

صدرت هذه الرواية عن دار آفاق - الكويت، بترجمة جميلة لسهيل الوافي، وتتوفر في مكتبات مختلفة هنا في مسقط، آمل أن يكون هذا العمل فاتحة للنبش عن سرديات كتبتها طبقات متباينة من حيث وصولها في هذا المجتمع. وأن نبدأ جديا في تكريس جزء من بحوثنا الاجتماعية نحو هذه السرديات وما تعنيه حقاً بالنسبة لنا اليوم وفي المستقبل.