المدرسة.. اسم مكان
27 سبتمبر 2025
27 سبتمبر 2025
«داهمتني الغرابة الوقحة للمكان فأربكتني، إذ خلتني وحدي التلميذَ الجديدَ المختلف... كنتُ وحدي حقًا: شخصية مجهولة وغريبة سوف تبتلعها قريبًا الآليات المعقدة لمكان واسع مثبط للهمم».
كان ذلك إدوَرد سعيد وهو يصف في مذكراته دخوله لمدرسة «فيكتوريا» في الإسكندرية. (خارج المكان، ترجمة فواز طرابلسي).
يتطلب الأمر زمنًا طويلاً من التفكير والمراجعة قبل أن ندرك الظلال العميقة التي خلَّفها ذلك المكان المهيمن على تكويننا البدني والعقلي. في حالتي، لا أستطيع أن أدقق أكثر في ماضي حياتي المدرسية دون أن ينتابني شعور غامض وغبش في الرؤية حيال تلك السنوات. رغم أنها ليست بعيدةً على شخص لم يبلغ حدود ثلاثينه بعد، إلا أن الذاكرة سرعان ما تحول تلك السنوات إلى مسرح مفتوح، حيث تمارس لعبتها الماكرة في تذكر تفاصيل بعينها ونسيان تفاصيل أخرى، بل في وسعها أيضًا - غير محشومة- أن تمارس التزوير والتحريف عن سبق إصرار وترصد.
ليس لوصفها مكان «تربية وتعليم» يشغلني نقد المؤسسة المدرسية واستعادة آثارها المديدة الآن، بل بوصفها جهازًا من أجهزة الدولة. هناك ستلمسنا رهبة السلطة لأول مرة بمجرد حلول أجسادنا الصغيرة في ذلك المكان المهندَس لتمارين الامتثال والطاعة. لم يكن في البال مصطلح «السلطة» حين كنَّا نصوغ علاقتنا الأولى معها، ضمن نسيج علاقاتها المتداخلة، لكننا كنَّا نحسها، تقترب من حساسية أجسادنا داخل ذلك الفضاء المسوَّر وتبتعد، من غير أن ندرك فعليًا ماهيتها بالضبط.
كنَّا نستوعب ببطء خضوع عقولنا الطرية لآليات العمل الجديدة في المدرسة. وكانت أجسامنا اللدنة القابلة للتشكُّل السريع تدخل في شيء اسمه النظام. هناك بالفعل سنتعرف على كلمة «النظام»، وستلقِننا الإذاعة المدرسية في الصباح حكمةَ الحكمِ المدرسية الشهيرة عن «العقل السليم في الجسم السليم»، تلك الحكمة المرجعية التي ما زلت أعتقد أنها كانت أول مقولة تحقق الربط في وعيي بين العقل والجسد، وقد دفعتني في فضول لمراقبة زملائي كي أقارن بين عافية أجسادهم ومستوى تحصيلهم الدراسي، وذلك فقط كمحاولة لإثبات منطقية تلك المقولة.
لا أستوعب الآن كيف تحملنا تلك الساعات المملة طيلة اثني عشر عامًا جالسين على تلك الكراسي الخشبية التي تصلب الظهر بقسوة، موزعين أحيانًا على شكل مجموعات أو اثنين اثنين في مصفوفة منتظمة تذكرني بستيفان تسفايج وهو يتحدث في مذكراته عن مدارس النمسا في أواخر القرن التاسع عشر: «كنَّا نجلس اثنين اثنين مثل عبيد السفن القديمة».
للسلوك الجمعي النمطي في البيئة المدرسية سلطته أيضًا بين التلاميذ. ولطالما فرضت أنماطُ المظهر والتعامل وطريقة الكلام نفسها على سائر التلاميذ وأجبرت المختلفين منهم على تجنب ممارسة اختلافهم علنًا، ودمغت الجميع بصفات الجميع دون تمييز. أتذكر مثلًا كيف تصبحُ المطالعة في كتاب آخر داخل غرفة الصف، غير المنهاج المدرسي، منظرًا هجينًا يفتح شهية المتنمرين، أو يحمل عدة انطباعات مستهجنة كالعزلة وغرابة الأطوار أو حتى تهمة التعالي والتظاهر بمظهر «المثقف» المختلف عن الجميع.
لا أدري إن كانت الصورة قد تغيرت كثيرًا بشأن التلميذ الذي يقرأ في الفسحة أو في حصص الاحتياط كتابًا خارج المنهاج المدرسي، لكنني أسمع من أصدقاء وصديقات يعملون ويعملن في مهنة التدريس كيف تبدو صورة المعلم الذي يقرأ كتابًا في غرفة المعلمين صورةً معرضة للغمز واللمز من قبل المعلمين أنفسهم، وغالبًا ممن لم يطالعوا كتابًا واحدًا في حياتهم بعد كتبهم التي امتحنوها في الجامعة. فإذا كان المعلمون أنفسهم يستهجنون فعل القراءة من زملائهم، فلا داعي لاستغراب هذا السلوك حين يصدر من التلاميذ تجاه بعضهم البعض. بهذا المعنى، يمكن القول إن فعل القراءة كان الطريقة الناعمة للتمرد على المنهاج المدرسي وعلى النظام...كان خروجًا صغيرًا.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني
