الماغوط: الشعر في زمن الإهانة

22 فبراير 2022
22 فبراير 2022

يتساءل قارئ: ماذا عساه أن يصنع الشعر بإهانة الزمن وكيف يتداركها؟ فيجيب بورخيس في قصيدته "فن الشعر": "قد يحولها إلى موسيقى وحفيف ورمز". بيد أن الإهانة قد تكون أكبر من طاقة الشعر الإبداعية على التورية والإيهام، وربما كانت أكثر بلاغة. ولذلك فإننا نتعثر بالإهانات واحدة تلو الأخرى صلبةً في شعر محمد الماغوط، لا تمتح في ماء قصيدته دون أن تشي هذه الفكرة بخلل أو قصور في أدوات الشاعر الفنية، وإنما تحيلنا إلى زمن جديد من أزمنة الشعر العربي، حيث لم يبق للشاعر من مجال سوى تطبيع الإهانة بطريقته الخاصة لتغدو الحياة أقل كلفة وفضاضة. لا أمل للبيع إذن في نصوص الماغوط المعجونة بظلمات ومظالم الإنسان العربي. فكل ما كتبه من شعر يظل وفيًا لمنبته الأول في "سجن المزَّة" حيث دوَّن أولى قصائده على لفائف السجائر. هناك، أي في السجن، حيث تعرف على علي أحمد سعيد أسبر (أدونيس)، المسكون بهموم نخبوية وتنويرية لا تعني شاعرًا يقطف من رصيف الشارع أبلغ قصائده، كالماغوط.

في العالم العربي يشبه الماغوط شاعر السوق السوداء الذي يبيع رواد المقاهي والحانات قصائده المهرَّبة، إنه الشاعر الذي لا يروق للقارئ العربي قراءة تجربته خارج سياقها السياسي المُعلَّم بالسجون والحدود ومخافر الشرطة. وأحسب أن تجربة محمد الماغوط مع قُرائه نموذج مثالي لدراسة القارئ المسكون بالتأويلات السياسية للجملة الشعرية، قبل دراسة الشاعر نفسه. إن الكتابة السياسية للشعر من جهة وقراءته السياسية من جهة أخرى، إشكالان مختلفان يتقاطعان في النص الذي يكتبه الشاعر، فالأول إشكال وتحد يخص ليل الشاعر العربي نفسه، أما الثاني فهو امتداد لتجربة القارئ ومشاغله، وهذا تفصيل قد يجرنا وراء أذيال طويلة من الشرح والتبرير، سواء تعلق الأمر بتجربة الماغوط أم بتجارب شعراء معينين ممن يتلقى القراء قصائدهم كالمنشورات السياسية، ومع أنني لا أرى في مصطلح "الشعر السياسي" أو "أدب السجون" سوى حقل دراسة ملائم لأساتذة الجامعات وطلاب الدراسات العليا، في غرف التشريح الأكاديمية المعقمة، إلا أنني أجد من الواقعية الاعتراف حتمًا بوجود "شعراء سياسيين" في مدونة الشعر العربي المعاصر، هم أولئك الذين تصعب قراءتهم خارج التأويلات السياسية للنص أو ما وراء النص. فأنى لي أن أبقي المشكلة السياسية على الحياد وأنا أقرأ مثلا ديوان الماغوط المعنون بـ"سأخون وطني"، أو أستمع لكلماته على لسان دريد لحام في مسرحيته الشهيرة "كاسك يا وطن"؟!

لنتذكر أن الماغوط كان قد خرج إلى الهواء المفخخ بلغط السياسة في بيروت، حيث يعاد طبخ التحولات الكبرى منذ نهايات الاستعمار في العالم العربي، حيث الأنظمة والأحزاب -كما في سائر عواصم الحداثة العربية- ترشح شعراءها للصعود على المنابر، وقل من ينتبه في زخم الشعارات القادمة من مكبرات الصوت إلى ضرورة صمود اللغة الشعرية أمام إكراهات السياسة. هكذا يمكن القول اليوم إن أهم الثورات التي أنجزها الشعر العربي في تاريخه القريب، على صعيد الشكل والمضمون، لم تكن في الغالب سوى استجابة ثقافية من طرف الشعر للمتغير السياسي الأكبر. ولنقل أيضاً: لعلها مسألة طبيعية من جهة ما، فالشعر كما نعرفه أكثر أدوات التعبير حساسية تجاه متغيرات الحياة في مختلف جوانبها. لكنه في ذات الوقت سيظل مهددًا بالتشظي إذا ما ظل يعتمد في تحولاته الفنية الباطنية على الرياح السياسية والاجتماعية، وليس على مادته الخام نفسها. وأحب دائمًا أن أقتبس عن الكاتب والروائي اللبناني إلياس خوري قوله إن طموح الأدب هو تغيير الأدب نفسه، إذا لم يعد بوسعه تغيير العالم.

من مجلة "شعر" التي أسسها الشاعر اللبناني الراحل يوسف الخال عام 1957، أطل الماغوط على مشهد شعري مكتظ بالصراعات الفكرية والسياسية، أطل بجملته النثرية المعفرة بغبار الشوارع في قصيدته الشهيرة "حزن في ضوء القمر" ليربك رقصة الإيقاع الشعري الكلاسيكي وإيقاع "الشعر الحر" الذي دشنته نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، وكان قد بدأ يأخذ ملامحه الجلية في خمسينيات القرن الماضي. لكن الماغوط، الذي اعترف في أكثر من مناسبة بغياب قصيدته في كتابة الشعر منذ القصيدة الأولى، لم ينسق خلف المعارك الشكلية التي انساق إليها رواد قصيدة النثر كأنسي الحاج وأدونيس ويوسف الخال وجبرا إبراهيم جبرا... وآخرين من شعراء "خميس مجلة شعر"، على الرغم مما لقيته قصيدة "حزن في ضوء القمر" من الهجوم اللاذع الذي شنته عليها نازك الملائكة، التي ذهبت في غلوائها لإقصاء "قصيدة النثر" من مائدة الشعر لسبب صريح وقاطع يتمثل في غياب الوزن في هذا اللون الجديد من "الشعر"!

ظلَّ الماغوط شاعراً خارجياً على الدوام، صعب المزاج وعصياً على الانتماء، وهو في ذلك يذكرنا بسير الشعراء الصعاليك في الجاهلية. لم يكن يوماً شاعراً مدرسياً وليس حرياً به أن يكون. رفض باستمرار إخضاع لغته البرّية المشفرة للقوانين الشعرية السائدة آنذاك، التي لم تكن لتثور على نفسها إلا لتقع في صناعة قوانين بديلة. قال لمحمد رضا نصر الله في لقائه النادر معه عام ١٩٧٩ إنه لا يأبه للشروط والقوانين المصاغة سلفاً: "أنا لا أرتكز في ما أكتب إلا على الكرسيّ والطاولة التي أكتب عليها"، وهذا التعبير الساخر يذكرني بما قرأته صغيراً عن نجيب محفوظ الذي ردَّ على أحد سائليه عن الكيفية التي يكتب بها صاحب نوبل قصصه، قائلاً: "إنني أكتب بالقلم".

في شريط وثائقي نادر أنجزته قناة الجزيرة عن الشاعر السوري عام ٢٠٠٦، أي قبل فترة وجيزة من وفاته، حكى الماغوط عن السجن أكثر من الحياة والشعر. كان السجن هاجسه الذي رافق سنوات حياته حتى آخر لحظة، وكأنها القصيدة الأولى التي لا ندري إن كان قد ندم عليها أم لا. قال للكاميرا إنه خائف، خائف من فتح باب بيته لأي طارق ليليّ، برغم من تعهد الدولة بحمايته ونيله وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة، فالسجن له جذور كما يقول.

• سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني